فصل 7

19 0 00

يد طفل صغير في يدك.. يا للحنان و القوة التي تطلقها فيك. في لحظة واحدة تجد نفسك قد صرت مركز الحكمة و القوة في الكون – ماريوري هولمز.

عندما و صلنا الي المنزل و نزلنا من السيارة، أخذت سارة تتأمل حديقة الفيلا بفضول الأطفال المعتاد، فهي لم تر منظراً مماثلاً من قبل. تسللت يدها اليمني لا شعورياً لتمسك بيدي، بينما ظلت تضم أميرة الي صدرها باليد اليسرى. هذا منطقي طبعاً، فأنا الشيء الوحيد المألوف لها في كل ما يحيط بها في هذه اللحظة.

لم أقطع الصمت و تركتها تتأمل ما حولها. في خلال لحظات كانت تسير لتستكشف الحديقة دون أن تترك يدي أو تتفوه بكلمة. لم أعترض و تبعتها في سيرها. توقفت أمام إحدى الأزهار بنفسجية اللون. وفقت أمام الزهرة فاغرة فاهها في انبهار. بينما كانت هي تتأمل الزهرة كنت أنا أتأمل وجهها و علامات الذهول المرتسمة عليه. و قفت تتأمل الزهرة لدقيقة كاملة و مدت يدها لتحسسها. و أخيراً تكلمت بأنفاس متقطعة من فرط الانبهار:

 

-"ما هذا"؟

"هذه و ليس هذا. هذه تسمي زهرة".

 

نظرت لي و كأنما لم تكتف بهذا. هي تريد المزيد من المعلومات. تري ما المعلومات التي يمكن أن يقدمها المرء عن الزهور الي طفلة مثل هذه، صغيرة السن و تربت في بيئة لا يمكن أن تعلمها أي شيء ذي قيمة؟ دعك من أن يكون هذا المرء شخص مثلي كل ما يعرفه عن الزهور هو أنها نبات لا يؤكل –إلا في الأساطير الإغريقية طبعا.

 

عندما لم تتلق مني رداً على نظرتها المتسائلة، التفتت الي الزهرة و أكملت تأملها و تحسسها في انبهار. لم يلبث أن انتبهت الي زهرة أخري قريبة، و لكن هذه كانت حمراء اللون. تركت يدي و وقفت أمامها تتأملها و تحسسها مثل الزهرة الأخرى. نظرت الي و سألت نفس السؤال:

 

-"ما هذا؟"

 

ما دامت سألت نفس السؤال، بالتأكيد ستتلقى نفس الإجابة:

 

-"هذا و ليس هذه. هذه أيضاً زهرة".

 

نظرت الي و تفكرت فيما قلته، ثم أخذت تنقل نظرها بين الزهرتين ثم قالت في تردد:

 

-"و لكن... ".

 

ثم بترت عبارتها. هي تريد ان تقول أن الشيئين مختلفتين في الشكل و اللون، فكيف يكون كلاهما زهرة، و لكنها لا تستطيع أن تعبر عن أفكارها. للأسف لا أعرف أسماء هذه الزهور.

 

-"الزهور لها أنواع و ألوان متعددة".

 

هزت رأسها في عدم اقتناع ثم لم يلبث أن لفت نظرها نبات آخر في الحديقة. بالطبع لا أعرف اسمه كالمعتاد، فأنا لم أزرع الحديقة بنفسي و إنما قامت بهذا إحدى شركات تنسيق الحدائق. يبدو أن هذه الجولة الاستكشافية في الحديقة لن تنتهي قبل أن يبدأ الشيب يغزو شعري.

 

قلت لها:

 

-"هيا لندخل الي البيت أولا ثم سنكمل باقي اليوم هنا في الحديقة".

 

أكملت تأمل الحديقة و كأنما لم أقل شيئاً. كررت ما قلت و أنا أجذب يدها تجاه الفيلا. قالت في شيء من العناد:

 

-"أريد ان أظل هنا".

-"سندخل الي البيت لبعض الوقت ثم نكمل باقي اليوم هنا في الحديقة".

 

ثم أضفت في لهجة مغرية:

 

-"و يمكننا أيضا أن نري حمام السباحة الموجود خلف الفيلا".

 

نظرت الي في تساؤل. بالتأكيد هي لم تسمع عن شيء يدعي حمام سباحة من قبل.

 

-"حسناً".

 

كنت أتوقع هذا. هي لا تعرف ما هو حمام السباحة، و لكن مادامت الفيلا بها أشياء مبهرة مثل الزهور، فبالتأكيد حمام السباحة سيكون هو الآخر شيء مبهر أو ربما أكثر إبهاراً.

 

كما تمنيت تماماً، الفتاة مستوي ذكائها أعلى من المتوسط بكثير. على الرغم من قلة معلوماتها – مقارنة بمن هم في مثل سنها- إلا أن تفكيرها منطقي و قوة ملاحظتها ممتازة. في مثل هذه السن الصغيرة تعتبر قوة الملاحظة و كثرة التساؤل و تأمل الأشياء من علامات الذكاء التي لا جدال عليها.

 

دلفنا الي الفيلا، و كما هو معتاد أخذت تتأمل ما حولها بفضول. تركتها و توجهت الي جهاز الهاتف. لابد من إجراء مكالمتين سريعتين.

 

بعد أن أنهيت المكالمتين صليت الظهر و حمدت الله على أن وفقني إلي ما كنت أتمناه. أشعر أني فزت اليوم بكنز لا يوصف و لا يقدر بمال.

بعد الصلاة توجهت الي المطبخ. لا أعلم ما الغذاء المناسب لفتاة في هذه السن. أعددت بعض الشطائر و كوب من اللبن – الشيء الوحيد الذي يخطر ببالي عندما أفكر في غذاء طفل، أو هكذا تعودت على الأقل. غالباً سترفض شرب اللبن كعادة الأطفال، و لكن ربما استطعت أن أقنعها بتناول الشطائر على الأقل. أنا نفسي لا أطيق اللبن و لا أشربه إلا ممزوجاً بشيء ما- شاي، قهوة، عصير فاكهة، أي شيء.

 

وضعت الشطائر على صينية صغيرة و خرجت الي الردهة. كانت سارة تقف أمام التلفاز المغلق تتأمله بانبهار. قدمت لها كوب اللبن و أنا أتوقع منها رفضاً، إلا أنها لم ترفضه و أمسكته تتأمله بنفس الانبهار و التساؤل. فطنت إلي أنها لم تر اللبن أيضاً من قبل. تملكني شعور عنيف من الكراهية لأبيها و أمها في هذه اللحظة. أعلم أن الفتاة من بيئة معدمة مادياً و ثقافياً، و لكن لم أتوقع أن يصل الأمر الي هذه الدرجة، أنها لم تر اللبن أبداً. لم يهتم أبيها في يوم من الأيام بأن يسقيها كوب من اللبن، لأن اللبن يكلف مالاً، و كل ما لديه من أموال ينفقه على مخدراته بالتأكيد. ألا بارك الله فيه.

 

تذوقت رشفة صغيرة من اللبن ثم امتعض وجهها بشدة. انفجرت في الضحك، فقد كان تعبيراً مضحكاً للغاية. دون كلمة مدت يدها الي بكوب اللبن، و لم أناقشها كثيراً. لا أريد تكون بداية علاقتي بها كوب من اللبن.

 

أعطيتها شطيرة تذوقتها في حذر و كأنما تتأكد أني لم أضع فيها اللبن، ثم أكملت التهامها في جوع واضح.

بعد دقيقة رن جرس الباب. فتحته لأجد على عتبته مندوب محل الملابس، يحمل الملابس التي طلبتها لسارة بالهاتف. هذه أولي المكالمات التي أجريتها عندما دخلنا الي الفيلا. أرجو أن تكون الملابس مناسبة لها، فأنا لا أعلم ما هي مقاييسها. فقط طلبت من الموظفة التي ردت على مكالمتي ملابس لطفلة في الرابعة من العمر متوسطة الجسد.

 

نقدت مندوب محل الملابس نقوده، و بالطبع طلب مني أن أوقع له أوتوغرافا. لا بأس. عادة أنا أرفض توقيع الأوتوغرافات، و لكني اليوم سعيد للغاية. لو طلب مني مليوناً من الجنيهات لكتبت له شيكا في الحال.

ما هي إلا لحظات إلا و دق جرس الباب ثانية. فتحته لأجد على عتبة الباب المربية التي طلبتها. هذه هي المكالمة الثانية. أحتاج الي من يعني بالفتاة ولا خبرة لدي إطلاقاً بالأطفال الصغار. طلبت أحد دور رعاية الأطفال الشهيرة و طلبت منهم أن يرسلوا لي من يمكنه أن يقوم بالأمر فورا.

كانت سيدة في منتصف الثلاثينيات، يبدو عليها الرقي و التهذيب. بالطبع مربية أطفال تعمل في دار رعاية أطفال مثل هذه لابد من أن تكون مؤهلة على أعلى مستوي، دعك طبعاً من الرقي و حسن المظهر. لكل هذا ثمنه بالطبع ولكن الأمر يستحق ما هو أكثر– سارة تستحق ما هو أكثر.

 

في كلمات موجزة أخبرتها أني أريد العناية بهذه الفتاة، و أشرت الي سارة. لم يغب عن نظري نظرة الاندهاش التي ارتسمت في عينيها لمظهر الفتاة الفقير، و لكنها لم تسأل أو تعترض و بدأت في تنفيذ عملها. في الواقع كانت تتقن رعاية الأطفال و التعامل معهم إلى درجة عالية. تعرفت الي سارة و أخذت تحدثها و تداعبها حتى اكتسبت ثقتها، بل و أخرجت من حقيبتها لعبة صغيرة و أعطتها لها، و هكذا صارت صديقتها. بعد هذا بدأت بأن أعطت الفتاة حماما ساخناً، و ألبستها الثياب الجديدة التي اشتريتها لها. لحسن الحظ كان مقاس الثياب مناسب لها.

عطرتها بعطر خاص للأطفال – له رائحة لا أستطيع أن أصفها، و لكنها تذكرني بالحلوى مع مزيج من رائحة غريبة لا أعلم ما هي، إلا أن الخلاصة أني شعرت أنه عطر رائع للأطفال- ثم قامت بتمشيط شعرها في ذيل حصان أنيق. لشد ما أظهرت العناية مدي جمالها. دون أدني مبالغة يمكنني أن أقول إنها كانت أرق و أجمل طفلة رأيتها في حياتي. طفلة تخطف الأبصار. هذا هو أقل ما يمكن أن توصف به.

 

أعطيت المربية نظاماً غذائياً لإتباعه مع سارة، مع بعض الإرشادات العامة بشأن نومها و صحتها و علامات الأمراض التي على الانتباه لها، الي آخر هذه الأشياء. لم أرغب في أن أفقد شيء مما تقول، فسجلت حديثها على جهاز صغير لتسجيل و سماع الأصوات، يمكن أن يوصل بجهاز الكمبيوتر لتفريغ الأصوات التي تم تسجيلها عليه. سأقوم تعلى مات الطعام هذه الي السيدة أمينة، مدبرة المنزل حين تأتي اليوم. إنها تمر على ثلاث مرات أسبوعياً لتقوم بطهي الطعام و الإشراف على تنظيف المنزل – بالطبع لا يمكنها العناية بفيلا كبيرة وحدها، هي تأتي معها بمساعدين ليساعدوها في هذا. هي سيدة لطيفة في أواخر الأربعينات من العمر، وأجرؤ على القول إنها أكثر شخص أستريح اليه في هذا المجتمع الكريه الذي أعيش فيه.

 

قبل أن تنصرف، اتفقت معها أن تمر بالبيت مرتين بالأسبوع لتتابع العناية بسارة بانتظام. أيضاً لم أنس أن آخذ منها اسم العطر الأطفال الرائع الذي استخدمته مع سارة.

 

بعد أن انصرفت المربية بدأت البرنامج الحافل الذي أعددته ارتجالا لسارة. في البداية ذهبنا الي أحد محلات الملابس لكي أشتري لها المزيد من الثياب، ثياب للخروج بها و بيجامات للنوم و لم أنس أن أشتري لها ثوب استحمام صغير. عندما كنت أنتقي ثوب الاستحمام لها بمساعدة أحدي البائعات، جذبت سارة يدي. نظرت اليها فأشارت الي بيدها أن أنزل. كانت تريد أن تقول لي شيئاً ما و لم ترغب في أن تسمعنا البائعة. ثنيت ركبتي كي أكون على مستواها، فقالت في صوت خافت:

 

-"ما هذا؟"

 

نظرت لها و قلت لها في حذر:

 

-"هذا ثوب".

-"ولكنه ليس مثل الباقيين".

 

رائع. بل أكثر من رائع. لقد لاحظت أن ثوب الاستحمام يختلف عن باقي الثياب التي اشتريناها و لم يمر الأمر عليها مرور الكرام. هذا رائع بالنسبة لسنها.

 

ابتسمت و أيضاً ابتسمت البائعة و قد سمعت العبارة الأخيرة. قلت لها:

 

-"ستعرفين فيما بعد".

 

بعد أن انتهينا من شراء الثياب، ذهبنا الي متجر شهير متخصص في العطور، فاشتريت لها زجاجة من عطر الأطفال الذي أخذت اسمه من المربية، ثم عرجنا على أحد محلات لعب الأطفال الكبري.

أخذ البائع يعرض على سارة جميع أنواع الدمي الموجودة بالمحل، إلا أنها رفضت تماماً أي دمية. حاول البائع بشتى الطرق أن يشرح لها مميزات الدمي التي يعرضها، إلا أنها كانت تضم أميرة إلي صدرها و ترفض حتى أن تصغي للبائع. كانت الدمي كبيرة الحجم غالية الثمن، معها الكثير من الكماليات مثل الثياب و أمشاط الشعر الي آخر هذه الأشياء التي لا أعرف الكثير عنها للأسف. أقل ما يمكن أن توصف به هذه الدمي هي أنها أفضل كثيراً من أميرة، إلا أني شعرت أن سارة ترفض مجرد فكرة التخلي عن دميتها الأثيرة، حتى لو حصلت على دمية أفضل منها.

لم أرغب في أن أضغط عليها، خاصة و أني شعرت بضيقها من عرض الدمي الذي قدمه البائع. أشرت له أن كفي و أمسكت بيد سارة و إبتعدت عن القسم الذي يحتوي الدمي، لأشتري لها نوع آخر من اللعب، و لكني لم أجد في المحل ما يناسبها. بالله على ك ما هي اللعبة التي تناسب طفلة صغيرة سوي دمية؟ كل الألعاب الأخرى لا تناسب سوي الأولاد. مسدسات و أسلحة مختلفة، دمي لأبطال أفلام الكرتون- أولئك الذين لا يفعلون شيئاً سوي إنقاذ العالم من الكوارث المحققة- و سيارات تسير بالبطاريات. لا يوجد ما يمكن أن يناسبها في هذه الألعاب.

 

و لكن بعد السير في المتجر لبعض الوقت، وجدنا أ نفسنا في قسم مخصص لدراجات الأطفال. اشتريت لها دراجة صغيرة ذات ثلاث عجلات ووضعتها في السيارة، دون أن آخذ رأيها. إن لم تناسبها الدراجة فلا يوجد ما يناسبها في هذا المحل. لم أكن أستطيع أن أخرج من المحل دون أن أشتري لها شيئاً. إذا أردنا الدقة، فأنا أكثر حاجة الي شراء هذه الدراجة من سارة. أنا بحاجة الي أن أشتري لها لعبة ما، لا أدري ما سبب هذا الشعور، فأنا لم أتعامل مع طفل أو طفلة بهذا القرب من قبل.

في الماضي، لم تكن فكرة أن يكون لدي طفل تمر بذهني على الإطلاق. ربما فكرت في أن أتزوج يوماً ما، فقط لشعوري بالحاجة الي زوجة، و لكني لم أشعر يوماً بالحاجة لأن يكون لي طفل. الآن حين أفكر في هذا، و أري كيف كنت متلهفاً على شراء هذه الدراجة الصغيرة لسارة دون أن تطلبها، أشعر بالفارق الضخم الذي أحدثته هذه الطفلة الصغيرة فيّ. ذات مرة قرأت في أحد المقالات أن الأم تأخذ من طفلها أكثر مما تعطيه. وقتها كان رأيي أن من كتب هذا المقال هو أحد مدعي الحكمة أو هو مجرد معتوه ممن يعج بهم العالم. الآن أري أنه كان عبقري.

من ينظر الي الأمر نظرة سطحية قد يظن أن هذه الفتاة الصغيرة تحتاج اليّ، بصغر سنها و براءتها و فقرها و سوء ظروفها الاجتماعية، إلا أن من ينظر الي الأمر نظرة مدققة، سيري أن حاجتي لها أكثر من مدي حاجتها اليّّ.

 

عدنا الي المنزل لكي أقوم بما وعدتها به من رؤية حمام السباحة. الشمس ستغيب في خلال ساعات قليلة، و لكن حمام السباحة محاط بكشافات و به نظام لتدفئة الماء. الآن أشعر بالفائدة الحقيقية لحمام السباحة، فأنا لم أسبح فيه أكثر من ثلاث مرات. لم أكن أشعر الحاجة اليه عند بناء هذه الفيلا، إلا أني كنت أري أن الأثرياء لديهم حمامات سباحة في فيلاتهم، فقمت ببناء واحد على أعلى مستوي من التجهيزات. كان حمام السباحة بالنسبة لي مجرد وسيلة لاستكمال الوجاهة الاجتماعية.

 

في الفيلا استقبلتنا السيدة أمينة – فاليوم موعد عمليات التنظيف و الطهي، وهي تملك مفتاحاً للفيلا- و عرفتها بسارة. مدت يدها في بشاشة و لطف لتصافحها، و لكن سارة اختبأت خلفي في حياء. ضحكنا أنا و السيدة أمينة. تركتنا السيدة أمينة قائلة إنها ستعود لتمضي بعض الوقت مع سارة فيما بعد، و لكن لديها الآن ما تقوم به في المطبخ.

ما أن تركتنا السيدة أمينة حتى قالت سارة:

 

-"و الآن أريد أن أري.... "

 

ثم صمتت محاولة التذكر. ضحكت و قلت لها:

 

-"حمام السباحة؟"

-"نعم، أريد أن أري حمام السباحة".

 

على الرغم من أنه قد مضت عدة ساعات على وعدي لها، و على الرغم من أني لم أذكر لها الموضوع ثانية إلا أنها لم تنس. رائع. على أي حال أنا لا أنوي أن أحنث بوعدي معها بعد أن بدأت أكتسب ثقتها.

 

قلت لها:

 

-"ارتدي ثوب الاستحمام لكي نري حمام السباحة سوياً.

-"ما هو ثوب الحمام".

-"ثوب الاستحمامي و ليس ثوب الحمام. هذ هو".

 

و أخرجت ثوب الاستحمام من وسط الثياب التي اشتريناها و ناولته لها. نظرت الي في تساؤل و كأنما تسأل عن علاقة ارتدائها لهذا الثوب الغريب برؤيتها لحمام السباحة. قلت لها:

 

-"إصعدي الي الغرفة التي في الطابق العلوي الي اليمين و ارتدي الثوب و سنذهب فوراً لنري حمام السباحة. سأجعل السيدة أمينة تساعدك".

 

نظرت الي نظرة و كأنها تقول (فلنصبر عليه الي النهاية).

توجهت الي المطبخ و في كلمات سريعة قصصت على السيدة أمينة قصة معرفتي بسارة و رغبتي في العناية بها و أن أجعلها تعيش معي الي أن تكبر. تفهمت الموضوع سريعاً، و إن لم تغب عن عيني تعبيرات التعجب و الدهشة على وجهها. بالتأكيد هي تتساءل كيف يمكن لمن هو مثلي أن يفكر في شيء كهذا. لم أحاول أن أبرر لها هذا، فأنا نفسي لا أدري ما الذي يدفعني الي هذا.

 

أخبرت السيدة أمينة بتوصيات التغذية التي أخبرتني بها المربية و طلبت منها أن تأخذها في اعتبارها عند طهو الطعام من الآن فصاعدا. أيضا طلبت منها أن تصنع صنفاً حلوا لسارة اليوم، و قبل أن تقوم بكل هذا، طلبت منها أن تساعد سارة على ارتداء ثوب الاستحمام لأننا سنلهو قليلاً في حمام السباحة.

خرجت السيدة أمينة الي الردهة و أخذت تداعب سارة قليلاً. تدريجياً تخلت سارة عن حياءها و بدأت تستجيب لمداعبات السيدة أمينة. هذا ما كنت أتوقعه، فالسيدة أمينة لديها ثلاث أبناء، و من معرفتي بشخصيتها، أعتقد أنها أم حنون، و بالتأكيد تعرف كيف تداعب طفلة صغيرة و تكتسب ثقتها. بعد دقائق قليلة، صعدت سارة مع السيدة أمينة الي الغرفة العلوية لكي تساعدها على استبدال ثيابها.

 

توضأت و صليت العصر و أجريت مكالمة تليفونية، ثم إرتديت ثوب الاستحمام الخاص بي وخرجت الي الردهة فوجدت سارة و قد ارتدت ثوب الاستحمام و إن كانت ما تزال ممسكة بأميرة. صحبتها الي حمام السباحة الذي يقع خلف الفيلا.

 

راقبت وجه سارة و هي تري حمام السباحة. ارتسمت على وجهها علامات الدهشة المعتادة. لقد صرت أستمتع بهذه النظرة كثيراً.

على الرغم من الجو لم يكن بارداً، إلا أني لا أضمن أن تكون برودة الماء مناسبة لسارة. أنا أحب الماء أن يكون بارداً قليلاً، إلا أني لا أعتقد ان هذا سيكون مناسباً لها. قمت بتشغيل نظام التدفئة و لكني لم أقم بتشغيل الكشافات. لم تغب الشمس بعد، و مازالت الرؤية واضحة.

 

بعد تحديق طويل في حمام السباحة، أشارت سارة اليه و قالت:

 

-"هذا حوض".

 

ضحكت كثيراً حتى دمعت عيناي. بعد أن هدأت ضحكاتي قلت لها:

 

-" هذا ليس حوضاً. هذا حمام سباحة. نحن نستخدمه لنلهو قليلاً وسط الماء".

 

أمسكت يدها و توجهت الي الجانب الآخر من حمام السباحة حيث عمق الماء قليل. قلت لها:

 

-"ضعي أميرة جانباً لكي ننزل الي حمام السباحة".

 

هزت رأسها بشدة و قالت:

 

-"كلا".

-"ستكون أمامنا دوما. سنضعها هنا على هذه المنضدة لكي لا تغيب عن عينيك".

 

قلتها و أخذتها الي المنضدة الصغيرة المجاورة لحمام السباحة. مددت يدي لآخذ منها الدمية فنظرت لي في تردد ثم تركتني أخذها لأضعها على المنضدة الصغيرة.

 

-"و الآن هيا بنا لننزل حمام السباحة".

 

نزلت أنا أولاً و مددت يدي اليها و قلت لها:

 

-"هيا إنزالي يا سارة".

 

وقفت مترددة على حافة حمام السباحة قليلاً ثم اقتربت بهدوء من يدي. حملتها بين يدي و أنزلتها في حمام السباحة الي جواري. ما أن لمس جسدها الماء حتى ضحكت قليلاً و هدأ توترها.

 

أمضينا ساعتين في حمام السباحة نلهو سوياً. لحسن الحظ أنها لم تكن من أولئك الأطفال الذين يخافون الماء خوفاً مبالغاً فيه.

 

عندما بدأ الظلام يحل خرجنا من حمام السباحة و عدنا الي الفيلا. لم تكن سارة ترغب في أن نترك حمام السباحة. كانت على استعداد أن تستمر في اللعب في حمام السباحة الي يوم يبعثون، و لم تبد على استعداد لأن تقتنع بالحجج التي سقتها مثل الظلام و برودة الجو و الوقت الذي تأخر. بالنسبة للأطفال تعتبر هذه الأشياء هراء من الذي يقوله الكبار دوما، لا يستحق أن يترك المرء لأجله شيئاً رائعا مثل حمام السباحة. الي حد ما أنا أتفهم وجهة نظرها و أري أنها تستحق التفكير.

لم تترك سارة حمام السباحة إلا عندما أخبرتها أن لدي شيء ما أريدها أن تراه.

 

-"ما هو".

-"مفاجأة".

 

نظرت لي في استغراب. هي لا تعرف معني الكلمة.

 

-"لن أخبرك حتى تريه بنفسك".

 

بدأت تلين و بدا لي أننا سنترك حمام السباحة أخيراً. عندما عدنا الي الفيلا صعدت سارة لاستبدال ثيابها بمساعدة السيدة أمينة، و استبدلت أنا أيضا ثيابي سريعاً. ما أن انتهيت حتى دق جرس الباب. لقد جاء مندوب محل الزهور الذي حادثته هاتفياً قبل نزولنا الي حمام السباحة بما طلبته منه. نقدته ماله و أخذت اللفافة التي جاء بها و ذهبت الي الردهة. دقائق قليلة و نزلت سارة من أعلى. كانت تنزل بسرعة و تقفز درجات السلم. لم يبدو عليها الإرهاق على الرغم من الوقت الذي قضيناه في حمام السباحة. جاءت السيدة أمينة بأطباق الحلوى و قدمتها لنا، و أكلت سارة قليلاً ثم نظرت الي اللفافة.

أجلستها على ركبتي، و قدمت لها اللفافة المغلقة:

 

-"و الآن هذا هو الشيء الذي كلمتك عنه".

 

أمسكت اللفافة الكبيرة التي تكاد تفوقها حجماً بين يديها الصغيرتين. علمتها كيف تفك الشريط الذي يغلفها و تفتحها.

 

كانت اللفافة تحتوي على أزهار متنوعة، و كل زهرة يحيط بساقها لفافة شفافة أنيقة ملصق عليها اسم الزهرة. لقد طلبت من محل الزهور أن يرسل الي زهرة من كل الأنواع التي لديه في المحل. بالطبع شعر عامل المتجر بالاندهاش إلا أني لم أفسر له. لو أخذت جنيهاً لكل من أثارت تصرفاتي دهشته في الآونة الأخيرة لصرت أغني أهل الأرض.

 

ما أن إنقتحت اللفافة حتى صفقت سارة بيديها في شدة و صرخت:

 

-"زهرة".

-"زهور و ليست زهرة".

 

لم تبالي بما قلت. لم يبد عليها أنها سمعتني أصلاً. ليس هذا وقت الدقة الإحصائية. أمسكت زهرة كتب عليها (ياسمين) و قربتها من أنفها.

 

-"شميها".

 

تشممتها في حذر ثم ارتسمت على وجهها علامات الدهشة المعتادة. هذا الشيء الرائع المدعو الزهور يحمل الكثير من الأسرار على ما يبدو.

أخذت تتشمم باقي الزهور ثم أمسكت بإحداها و قالت:

 

-"ليست لها رائحة".

-"بعض أنواع الزهور ليس لها رائحة".

 

أخذت أقرأ لها أسماء الزهور – فهي لم تتعلم القراءة و الكتابة بعد- و هي تصغي الي.

مر الوقت كالحلم الجميل. لم أشعر بأن الوقت قد تأخر إلا عندما بدأت سارة تتثاءب. أخذتها و صعدنا الي أعلى لكي تنام. ليس لدي في الطابق العلوي غرف مجهزة للنوم سوي غرفتي. باقي الغرف غير مفروشة أساساً، باستثناء غرفة هي مزيج من غرفة معيشة و حجرة مكتب، أقضي بها معظم الوقت أمام جهاز الكمبيوتر. غدا سأجهز أحدي الغرف لتكون غرفة مخصصة لسارة، اما اليوم فيمكنها أن تنام بجواري في الفراش.

أدخلتها الفراش و قد أمسكت في يدها بزهرة الياسمين فقد راقت لها رائحتها أكثر من باقي الزهور، و يبدو أنها على وشك أن تحل محل أميرة.

و كأنما سمعت أفكاري، فبعد أو وضعت رأسها على الوسادة بثانيتين، قفزت فجأة منزعجة:

 

-"أميرة؟"

-"لا تقلقي، لقد تركناها على المنضدة المجاورة لحمام السباحة. نامي و سأذهب أنا لأحضرها".

-"سأذهب معك".

-"لا داعي لهذا ف... "

 

بترت عبارتي عندما رأيت علامات الانزعاج الشديد على وجهها. كانت فعلى اً على وشك البكاء. لم أكن أريدها أن تخرج من الفيلا في جو الليل المائل للبرودة، و لكن من الأفضل أن تصاب بالبرد عن أن تصاب بالذعر. لا أدري ما سبب هذا التعلق الشديد بدمية. لم أتصور أن تنزعج فتاة من أجل دمية الي هذه الدرجة. الأدهى انها لم تفقد الدمية، فقط هي إبتعدت عنها قليلاً.

 

أمسكت بيدها و ذهبنا و أحضرنا الدمية. كانت تسير بخطوات سريعة تكاد تقترب من العدو، و كأن الدمية ستطير أو ستهرب. لم تهدأ إلا بعد أن أحضرنا الدمية.

عدنا الي غرفة النوم، و وضعت سارة رأسها على الوسادة و احتضنت أميرة بين ذراعيها بينما يدها اليمني لا تزال ممسكة بزهرة الياسمين.

فكرت في أن أحكي لها قصة كما يفعل الناس مع الأطفال عند النوم، و لكني لا أعرف أي من هذه القصص التي يسميها الغربيون قصص الجنيات Fairy Tales، فقد كنت أنظر الي هذه القصص على أنها إحدى طرق تنمية التخلف العقلي لدي الأطفال و آبائهم على حد السواء. فكرت في أن أبتكر لها قصة، ثم وجدت أني لو فعلت هذا، فسأجعلها تكره القصص الي الأبد، إذ أن قدرتي على تأليف القصص لا تزيد عن قدرتي على قيادة مركبات الفضاء. كنت بحاجة إلي أن أقضي معها المزيد من الوقت في أي شيء، حتى لو كان هذا بأن أحكي لها قصص كنت أعتبرها بلهاء. الآن أري أنها مهمة في أنها قد تكون إحدى وسائل التواصل بيني و بينها - أما إن كانت القصص سترضيها بالإضافة الي هذا، فأنا على استعداد بأن أعترف بأن قصص الأطفال هي أهم ما في الوجود. لا بأس، لا داعي لأن نقوم بكل شيء في يوم واحد، فلنبق شيئاً للغد.

 

أطفأت المصباح و تركت مصباحاً صغيراً مضاء لكي لا أتركها تنام في الظلام الدامس، ثم خرجت من الغرفة. ما أن أغلقت باب الغرفة حتى جاءني صوتها من داخل الغرفة:

 

-"عم خالد".

 

فتحت باب الغرفة، فقالت لي:

 

-"لا تتركني وحدي يا عم خالد".

 

لم أكن أشعر برغبة في النوم، فلم يحن موعد نومي بعد، ولكني شعرت بلذة خبيثة. ها قد جاءت وسيلة لقضاء المزيد من الوقت مع هذا الملاك الذي يخشى أن ينام وحده.

قضيت الوقت في تأمل وجهها الجميل. كل الأطفال الذين يبدون كالشياطين في يقظتهم يبدون كالملائكة عندما ينامون، فما بالك بالطفلة التي تبدو كالملاك و هي متيقظة، كيف تبدو عندما تنام؟

 

في لحظات قليلة كانت غارقة في النوم. لقد كان يوماً حافلاً بكل المقاييس، بالنسبة لها و بالنسبة لي. دون مبالغة يمكنني أن أقول إن هذا أجمل أيام حياتي.

 

بعد أن نامت قمت من جوارها و نزلت الي ساحة التدريب التي تحتل القبو العملاق الموجود أسفل الفيلا. اليوم موعد التدريب، فأنا أتدرب مرتين أسبوعياً لكي أحافظ على مستواي. هذه عادة لم أكسرها يوماً من أن بدأت في مهنتي هذه.

 

القاعدة الأولي: التدريب البدني هام للغاية، و التدريب العقلي أكثر أهمية.

 

بدأت بتدريبات الإحماء المعتادة ثم توقفت. لا أريد أن أتدرب الآن، أنا فقط أريد أن أقضي مع سارة المزيد من الوقت. أشعر بأنه ليس من العدل أن تنام و تتركني. هذه ساعات ضائعة يمكن أن تستغل فلماذا نضيعها في شيء سخيف مثل النوم.

 

لأول مرة في حياتي تخليت عن التدريب و صعدت الى أعلى. ذهبت الي الطابق العلوي، الي غرفة المعيشة، و فتحت جهاز الكمبيوتر. لا أعلم ما الذي أريد أن أقوم به على جهاز الكمبيوتر، فقط هي الحاجة لفعل أي شيء. قضيت الوقت في تصفح صفحات إنترنت مملة و سماع بعض الأغاني الأكثر مللاً. بعد ما فعلته اليوم، أشعر بأنه لا شيء يعادل في روعته قضاء الوقت مع سارة.

لا أدري كيف مر على الوقت حتى بدأت أتثاءب و أشعر بالرغبة في النوم. قمت فصليت و قرأت بعض الآيات من القرآن الكريم ثم وضعت رأسي على الوسادة بجوار سارة و احتضنت جسدها الصغير بذراعي.

و كان هذا أجمل و أهدأ نوم أحظي به منذ زمن طويل.