الأشياء التي تحظي بشعبية عالية وسط الجماهير هي أشياء فاسدة- أوسكار وايلد.
رفاييل أهارون هو أكبر و أهم مخرجي شركة العاب الواقع-و أكثرهم ثراء و شهرة بالطبع. إنه الشخص الذي يتمني باقي المخرجين الصغار – أمثال داني جوليان- أن يكونوه في يوم من الأيام. بالطبع هو الذي يقوم بإخراج المعارك التي أشترك فيها الآن. أنا و هو نشكل شيئا أشبه بالفريق منذ فترة لا بأس بها. هو أميركي الجنسية - مهنة مخرجي الألعاب تكاد أن تكون مقتصرة على الأمريكيين لسبب لا أعلمه- إلا أنه يتحدث العربية بطلاقة مدهشة. لا أعلم كيف أتقن العربية الي هذه الدرجة. ربما أسأله عن هذا يوما ما..
في تمام الثامنة كنت على باب منزله. للدقة المعمارية هو ليس منزل و إنما قصر. يمكنني أن أترك لك أن تتخيل مدي الفخامة والثراء التي يفوح بها. يبدو أن رفاييل قد أنفق نصف مدخراته على هذا القصر.
استقبلني أحد الخدم على الباب و قادني الي البهو المخصص للضيوف. بعد لحظات قليلة جاء رفاييل مرتديا حلة رمادية أنيقة و قميصا أسود و ربطة عنق هي مزيج من اللون الرمادي و الذهبي. من لا يعرفه قد يظن أنه على وشك الذهاب الي حفل زفافه الآن، إلا أن هذه هي عادته، دائما متأنق الي أقصي درجة ممكنة. أتمنى أن أراه ذات مرة عندما ينزل في حمام السباحة الكبير الموجود في الحديقة. لابد أنه ينزل الماء بنفس هذه الثياب.
دعني أصفه لك. إنه في أواخر الأربعينيات، يميل الي القصر، أزرق العينين، رمادي الشعر، يرتدي عوينات ذات إطار ذهبي اللون – لا أستبعد أن يكون هذا الإطار من الذهب- و له لحية رمادية أنيقة تحيط بفمه.
صافحني في ود قائلا:
-"مرحبا بك يا خالد. لقت قلقت على ك بعد محادثتنا على الهاتف. لم تبد لي على ما يرام إطلاقا، حتى أني فكرت في أن أمر على ك دون أن أنتظر للساعة الثامنة.
-"لم يكن الأمر ذا بال يا رافاييل. فقط كنت مرهقا قليلا".
-" و كيف حالك الآن".
- "بخير، شكرا لسؤالك".
استدعى الخادم و طلب لي مشروبا باردا. بعد أن جاء المشروب و دار بيني و بينه بعض الثرثرة البسيطة، اعتدل في مجلسه و قال في حماس:
-"و الآن فلنناقش المعركة القادمة. أنا أعدها لتكون حدثا لا ينسي. ستكون علامة مميزة في تاريخي و تاريخك...
قاطعته في سخرية:
-"من الممكن أن تكون علامة مميزة في تاريخي بأن أموت فيها. هذا سيجعلها نهاية تاريخي كله".
أكمل و كأنما لم أقل شيئا:
-"مكان المعركة القادمة سيكون في جزيرة صغيرة قرب جزر هاواي، هذا يثير خيال الجمهور بلا شك. لقد عانى مساعدي كثيرا حتى يجد جزيرة صغيرة المساحة في هذه المنطقة، فأنا لا أريد أن يصاب الجمهور بالملل بينما اللاعبين يبحث كل واحد فيهم عن الآخر. أيضا الجو في هذه المنطقة في هذا الوقت من العام حار ممطر. و هناك احتمالية لا بأس بها أن تسقط الأمطار. هذا تجديد في حد ذاته".
-" إذا فكل ما ستفعله هو أنك ستختار مكانا مبتكرا لتدور فيه الألعاب".
-"ليس هذا فقط. أتعلم يا خالد ما الذي أوحي بفكرة العاب الواقع في البداية؟"
-"لا أعلم، و لكني أظن أنها تلك المباريات الرومانية القديمة".
-"ليس تماما. لا أدري إن كنت تعلم أنني صاحب الفكرة في الأصل. ما أوحي الي بفكرة العاب الواقع هي العاب الكمبيوتر. ألعاب الرماية التي يكون فيها أكثر من لاعب و يدور بينهم القتال الي أن يفوز أحدهم. عادة ما كان الفائز يتحدد طبقا للنقاط التي أحرزها من قتل الاعبين الآخرين. في البداية فكرت في أن تكون الألعاب قائمة على الخدع، مثلا باستخدام الطلقات التي تحدث بقع من الحبر على الثياب في موضع الإصابة، و التي يستخدمها رجال العمليات الخاصة أحيانا في تدريباتهم".
-"ولكن بهذا لن تجذب لها سوي عدد قليل من الأشخاص، غالبا من محبي العاب الكمبيوتر".
-"بالضبط. أتعرف ما هي المشكلة العملاقة التي تواجه مخرجي السينما و مصممي العاب الكمبيوتر – و التي لا يعرف الكثير منهم انها موجودة أصلا- و التي تحد من انتشار العابهم و أفلامهم و اندماج الناس فيها"؟
هذا الرجل درس علم النفس دراسة ممنهجة. كل النصابين يعتمدون على موهبتهم في فهم النفس البشرية، و لكن هذا هو أول نصاب يبني عمله على دراسة ممنهجة لعلم النفس بالإضافة الي الموهبة.
نظرت له نظرة متسائلة من طراز (لا-أعلم) فأكمل بنفس الحماس:
-"أنها خيال. مهما اندمج شخص ما في فيلم رعب أو إثارة، فعقله الباطن يعلم تماما أن هذا ليس سوي فيلم. في ألعاب الكمبيوتر أنت تقتل صديقك بينما هو يجلس أمام الجهاز المجاور لك. هذا قتل تام للعبة أو الفيلم. بعض من مخرجي الأفلام البلهاء كانوا يعرضون كيفية صنع الخدع السينمائية في أفلامهم في برامج التليفزيون و هم يظنون أن هذا نوع من التسويق أو الدعاية للفيلم، و بهذا يذهب المشاهد الي السينما و هو يعلم أن مشهد السفينة و هي تغرق قد تم صنعه بالكمبيوتر، و أن مشهد غرق الممثلين قد تم تصويره في حمام سباحة مع وضع خلفيات مزيفة".
- "و لهذا فكرت في العاب واقعية تماما".
-"بالضبط. لهذا كانت شعبية الألعاب الرومانية ساحقة. منذ عصر الرومان الي اليوم تغير الكثير من الأشياء. طرق العرض و الإخراج، نوعية الأسلحة، نوعية الألعاب، و لكن هناك شيء ثابت لم يتغير منذ العصر الروماني الي اليوم. في الواقع هو لم يتغير منذ العصر الحجري الي اليوم. اتعلم ما هو هذا الشيء"
فكرت قليلا ثم قلت:
-" الإنسان".
ابتسم ابتسامة واسعة ثم قال:
-"أتعلم ما الذي يجذبني اليك- أكثر من كونك لاعبا متميزا؟ عقلك. كل اللاعبين الأخرين يهتمون بجسدهم و أسلحتهم فقط. أنت الوحيد الذي يهتم بعقله أيضا. هذا يصنع فارقا ضخماً. نعم أنت على حق. ما لم يتغير أبداً هو النفس البشرية. الإنسان مولع بالعنف و العاب العنف. العنف وسيلة تسلية هامة كفيلة بأن تنسي الإنسان كل مشاكله أياً ما كان حجم هذه المشاكل.
"و ماذا عن الهدف الأكبر من كل هذا؟ لا أظنك تجهل أن هذه المعارك الهدف منها هو تحويل نظر الفقراء الي أشياء أخري لإلهائهم عن طلب ما هو أفضل لحياتهم عن طريق إثارة أحط الغرائز البشرية فيهم. يمنحونهم ما يشغلهم و يلهيهم.. . "
نظرت الي رفاييل طويلاً و قلت له:
-" الخبز و العاب السيرك Bread and Circus".
-"بالضبط. الناس في روما القديمة كانوا فقراء معدمين، مدينتهم مليئة بالفساد السياسي و المالي، و على الرغم من هذا كانوا يذهبون الي سيرك مكسيموس Circus Maximus ليصرخوا و يمرحوا و هم يشاهدون المعارك. كل ما أهمهم في الحياة هو أن ينالوا الخبز و زيت الزيتون و أن يشاهدوا المعارك بانتظام، و كان هذا كفيلا بأن ينسوا مشاكلهم كلها.
-"و لا يزعجوا الطبقة الحاكمة أو ينتقدوا الفساد السياسي و الإداري في الدولة. كل ما على الدولة أن توفره هو الخبز و الألعاب و بهذا تنسي الجماهير ما يدور وراء الكواليس".
-"ربما كان ما تقوله صحيحا. الخلاصة هي أني أحاول أن أصنع جو العاب الكمبيوتر بواقعية، و لهذا سأضيف بعض النقاط الهامة التي كانت في العاب الكمبيوتر. مثلا، ستوجد بعض الأسلحة المتقدمة في أماكن متفرقة من الجزيرة. من يجدها ستزيد فرصته في الفوز طبعا. أيضا قمت بتصميم بعض الفخاخ و التي قد تكشف عن مكان من يقع فيها أو حتى تقتله. لن أخبرك طبعا عن هذه الفخاخ أو أماكن الأسلحة و لكني يكفي أن أخبرك أن التكلفة الإضافية المتوقعة للتعديلات الجديدة هو مبلغ به ما لا يقل عن سبعة أصفار"
-"و لماذا تتحمل الشركة هذه التكلفة العالية؟ لماذا لا تحافظ على نظام الألعاب القديم الأقل تكلفة؟ لا أعتقد أن شعبية الألعاب قد انخفضت".
قال في لهجة مازحة مقلدا من يظهرون في الإعلانات:
"هدفنا إسعاد الجمهور. و تذكر أن الفائز يأخذ كل شيء".
ثم قال بلهجة جادة:
-"هناك تعديلا قد يغطي هذه النفقات بل و يأتي بربح لا بأس به للشركة. في الفترة الأخيرة ظهرت بعض الشائعات أن الألعاب ليست واقعية و أنها قائمة على بعض الخدع. بمعني آخر لا يوجد قتل حقيقي. لهذا فكرت في فكرة مبتكرة. سنأخذ بعضا من الجمهور الي المعارك، حيث سيتواجدون داخل ساحة المعركة نفسها. بالطبع سيكون هذا مقابل دفع ثمن التذكرة الذي لن تقدر عليه سوي فئة محدودة في المجتمع".
-"و ماذا عن الرصاصات المتطايرة؟ قد يصاب أحدهم برصاصة أثناء المعركة. دعك من أنهم سيكونون مصدرا لتشتيت انتباه اللاعبين.
-"بالنسبة للرصاصات فسيرتدون ملابس من الكيفلار Kevlar تغطي جسدهم بأكمله حتى رؤوسهم. أما بالنسبة لتشتيت الانتباه، فيمكنك أن تفكر فيها على أنها إضافة أخري من عالم العاب الكمبيوتر. بعض الألعاب بها رهائن أو أبرياء، و هؤلاء قد يظهروا لك فجأة و على ك أن لا تقتلهم. بالطبع لن نخاطر بأحد المشاهدين، لذا إن أطلق أحد اللاعبين عليهم رصاصة بطريق الخطأ فسيحميهم الكيفلار".
-"لا بأس. متي ستكون هذه المعركة".
-لن تكون قبل شهر من الآن. الموضوع يستغرق وقتا لتجهيز كل هذا، دعك من أن بعض النقاط مازالت موضع نقاش في الشركة، إلا أني سأقنع وائل الحديدي. سأنقعه بالأرباح المنتظرة لهذه التعديلات. دعك من أن شركة الألعاب تكسب الكثير من الاشتراكات في القنوات المميزة.
وائل الحديدي هو الملياردير الشهير صاحب شركة الألعاب. أنا شخصيا أري أنه أحمق، و بالمناسبة هو منبهر برفاييل الي درجة الوله، و يطيعه في كل ما ينصح به.
-"هذه نقطة أخري تثير دهشتي. لماذا يدفع الناس اشتراكا باهظاً للاشتراك في القنوات المميزة لمشاهدة الألعاب بينما هي تبث على القنوات المجانية. أنا أعلم أن المعارك تبث على القنوات المجانية بعد بثها على القنوات المميزة بيوم، و لكن هل يساوي هذا تكلفة الاشتراك؟
ابتسم رفاييل ابتسامة خبيثة و قال:
-"القنوات المميزة لا تمنح الأثرياء فارقا زمنيا فقط.، بل فارقاً نفسياً أيضاً. إنها تعطيهم تميزاً على الطبقة الفقيرة. إذا أردت الدقة هي تساعد على فصل الطبقات. الفارق بين الطبقة الغنية و الطبقة الفقيرة واضح في كل شيء: الطعام، الثياب، وسائل المواصلات، أماكن السكن إلى آخر هذه الأشياء. و الأغنياء يرحبون دوما بما يزيد من هذا الفارق و يقويه و هذا هو ما تمنحه لهم القنوات المتخصصة".
نظرت له في صمت و تفكرت في ما قال. لا أدري من أين تأتيه هذه الأفكار الشيطانية.
-"حسنا. سأنصرف الآن لعلى أحظي بشيء من النوم".
-"سأتصل بك غداً لأطمئن عليك".
اتجهت الي الباب، و عندما أمسكت مقبض الباب تذكرت شيئاً. التفت اليه و سألته:
-"رفاييل، من الأحمق الذي اختار كلمة (الفائز يأخذ كل شيء) كشعار للألعاب؟ هذه كلمة قديمة مستهلكة و لا تدل على أي شيء، و كأنها إعلان عن مسابقة تنظمها إحدى شركات السمن الصناعي. لماذا لا يختار شعاراً معبراً مثل (دماء و رصاصات) أو شيء من هذا القبيل".
-بالعكس. هذا هو الشعار المناسب. على الرغم من كل ما قلته لك عن حب الناس للعنف، إلا أن هناك أيضا رفض للعنف و حب للسلام في داخل النفس البشرية. يمكنك أن تفكر في الأمر على أنهما تياران متضادان. لا نريد أن نصدم المستمع أو المشاهد بهذا الشعار، و كأنما نقول له شاهد الألعاب دعما للعنف و الدماء. دعنا نختر شعارا لا يمكن الإمساك به و لا يدل على شيء و لا يمكن أن يختلف عليه اثنان. هل يمكن أن يرفض شخص ما أن يفوز لاعب في لعبة من الألعاب؟ بالطبع لا. و لكن ما اللعبة، ما الذي سيفوز به، بأي مقابل، كل هذه أشياء لا يذكرها الشعار و لا يجب أن يذكرها لكي لا يثير الأفكار في عقول الناس، و لا يثير في النفس هذا التيار المضاد الرافض للعنف. هذا شيء يعرفه السياسيون و الإعلاميون بالفطرة. يسمونه الحديث المزدوج Double Speak. و يعني تقليل التفكير في اتجاه معين أو منعه باستخدام الفاظ مطاطة تحتمل أكثر من معني. ".
-"تماما مثل شعار الثورة الفرنسية: الحرية الإخاء المساواة. ".
-"شعار الثورة الفرنسية مثال ممتاز للحديث المزدوج، على الرغم من أن دراسة الإعلام كعلم له مصطلحاته و كتبه لم يكن قد بدأ بعد، إلا أن مبدأ الحديث المزدوج قديم قدم الدهر يعرفه السياسيون و الإعلاميون بالفطرة كما أخبرتك. لا أحد يرفض الحرية، ولا الإخاء و المساواة، و لكن حرية من؟ من ماذا؟ إخاء بين من؟ مساواة من بمن؟ هذا شيء لا يذكره الشعار. القيمة الحقيقية لمثل هذا الشعار أنه يبعد الانتباه عن السؤال الهام: هل تؤيد سياسة الثورة الفرنسية؟ هل تؤيد عمليات الإعدام بالمقصلة و غزو الشعوب الأخرى و كل ما قام به قادة الثورة الفرنسية من مجازر؟ نفس الشيء بالنسبة لشعار الألعاب، إنه يبعد الانتباه عن سؤال هام: هل تؤيد العنف و القتل"؟
اللغة السياسية هي اللغة التي تم تصميمها لجعل الأكاذيب تبدو حقائق و جعل القتل شيئا مستساغاً، و إعطاء الشكل الموضوعي العقلاني لأشياء هي عبارة عن هراء تام- جورج أورويل.
نظرت له و قلت:
-"أنت شيطان".
ضحك بعمق و قال:
-" لا تهون من شأني يا خالد. إن الشيطان تلميذ في مدرستي، صحيح أنه تلميذ مجتهد إلا أني مازلت أستاذه".
-"سأنصرف الآن. وداعا".
-"صحبتك السلامة".