صوت تغريد طيور...
الصوت يتعالى بالتدريج ليتحول تدريجيا من شيء رقيق الي شيء مزعج...
إنه ذلك المنبه الأحمق يحاول أن يوقظني، في البداية بالذوق ثم يتحول الي القوة تدريجيا...
صمتا يا أحمق، انا مستيقظ ولكني لا أستطيع أن أقوم من الفراش لأوقفك. أحتاج بعض الوقت لأستجمع قواي للذهاب الي اخر الغرفة و أوقفك. المرء يكتسب قواه العقلية كاملة بعد النوم في وقت يتراوح من 15 الي 20 دقيقة. إنه لم يدرس علم وظائف الأعضاء على ما يبدو.
قمت من النوم متثاقلا الي نهاية الغرفة و قمت بإيقاف المنبه الموضوع على الأرض في ركن الغرفة. إنها فكرتي أن أضعه في هذا المكان الغريب لأني أوقفه و أنام دون أن أشعر حين يكون على الكومود بجوار رأسي. أردت أن أجعل إيقاف المنبه شيئا يستلزم ترك الفراش كي أجبر نفسي على الاستيقاظ في موعدي. نظرت في شاشة المنبه. الساعة الان الثامنة صباحا. اليوم هو الأول من مارس عام 2152. لا فارق، كل الأيام تتساوي لدي.
ولكن لماذا أستيقظ الان؟ يا لي من أحمق. اليوم أجازه ولا توجد اليوم أي العاب أو التزامات من أي نوع، و التدريبات موعدها في السادسة مساء. اليس من حقي أن أكسر روتين الاستيقاظ اليومي في يوم مثل هذا؟
حسنا لقد استيقظت و لا فائدة من تقريع النفس الان.
دخلت الحمام الملحق بالغرفة للقيام بطقوس الصباح المعتادة. نظرت الي وجهي قي المرآة الأنيقة المعلقة فوق الحوض. مازال وجهي كما هو، نفس الملامح القسيمة و النظرة المسيطرة المتحدية كما هي.
أشعر بالجوع. يجب أن أعد لنفسي شيئا على سبيل الإفطار. هبطت الي الطابق الأرضي و دلفت الي المطبخ لإعداد إفطار مرتجل. سأكتفي بكوب من اللبن و بعض الشطائر. وضعت الكوب و الشطائر على صينية و أخذتها الي الردهة.
وضعت الطعام على المنضدة الصغيرة و أزحت الستارة عن النافذة التي تحتل جدارا بأكمله و تطل على حديقة الفيلا. اليوم مشرق و جميل، المنظر من هنا رائع و لكن...
هناك شيء ما خطأ. اليوم مشرق و الحياة جميلة و كل شيء على ما يرام، و لكني لا أجد في نفسي استمتاعا بأي شيء أو الرغبة في عمل أي شيء. يبدو أن الغدة المسئولة عن الاستمتاع بالحياة التي تكلم عنها أحمد خالد توفيق – على الرغم من أني لم أجدها في كتب علم وظائف الأعضاء- لا تعمل كما ينبغي اليوم. للدقة الوقتية هي لا تعمل اليوم ولا الأيام السابقة. إنه الاكتئاب بحذافيره. الاكتئاب كما ينبغي أن يكون...
نظرت الي الطعام على الصينية. على الرغم من شعوري بالجوع فإني لا أجد شهية لأن أضع قطعة واحدة من الطعام في فمي. أشعر أن التهام شطيرة واحدة من هذه الشطائر عمل بطولي تتضاءل أمامه بطولات هرقل و أخيل و كل بلهاء الأساطير الإغريقية مجتمعين.
لماذا لا أزور أكرم يوسف؟ أشعر برغبة عارمة في رؤيته والاستماع الي حديثه. أعلم أنه لا يطيق رؤية وجهي ولكنه لن يقدم على طردي. أعتقد أنه لايزال يحمل لي بعضاً من الود القديم.
صعدت الي غرفتي و بدلت ثيابي. القميص الخفيف، البنطال الجينز و الحذاء الرياضي الأبيض الأنيق. أشعر أني نيست شيئا. ما هو يا تري؟ اه، إنه المسدس. وضعت المسدس الصغير بعد أن تأكدت من أنه محشو بالطلقات في الجراب المعلق على وسطي. لا يمكن لشخص مثلي أن يخرج من منزله دون سلاح.
خرجت من الفيلا و توجهت الي المرآب الصغير الملحق بها. لم أحاول أن أختار واحدة من السيارات الثلاث كما هي عادتي كلما خرجت، و إنما توجهت الي أقربهم الي باب المراب. لا مزاج لدي اليوم للانتقاء والاختيار. كل السيارات تستوي، فلو وجدت في المراب حمارا قرب الباب لركبته و خرجت.
ركبت السيارة و خرجت من الجراج ثم من الفيلا. ضغطت على زر في السيارة لينغلق باب الجراج خلفي و قدت السيارة في الشوارع المحيطة بمنزلي متوجها بها الي الطريق الذي يقود الي الجانب الشرقي من المدينة، او ما يدعوه البعض الجانب المظلم من المدينة.
وصلت الي الجانب الشرقي من المدينة في نصف ساعة. أسير في الطرقات الضيقة غير الممهدة بسرعة بسيطة و أتأمل ما حولي. كتابات بالإسبراي أغلبها بذيء تسب الحكومة أو تشجع بعض الفرق الرياضية، منازل من طابق واحد أو طابقين تفوح بالفقر و القذارة.
بعض الأطفال يرتدون ثياباً ممزقة و يلعبون الكرة و يتبادلون السباب فيما بينهم. عجوز تجلس على عتبة دارها في ثياب رثة تلتهم شيئا من طبق صدئ، بينما تنتشر أكوام القمامة في كل مكان.
انحرفت يمينا حيث الشارع الذي يسكن به أكرم. صفيحة قمامة كبيرة مقلوبة على جانبها في وسط الشارع و قد سقطت منها القمامة. لقد ضيقت من عرض الشارع الضيق أصلا.
ركنت سيارتي- السيارة عرضها أقل بقليل من عرض الشارع أصلا- أسفل منزل أكرم. في الواقع إن وصف هذا الشيء بالمنزل يحتوي بعض المبالغة. هو عبارة عن مبني متهالك من طابقين، كل طابق تحتله شقة واحدة أصغر من الحمام الملحق بغرفتي.
صعدت السلم الضيق الي شقة أكرم. وقفت أمام شقته مترددا للحظة. لا أحب هذا الشعور بأني شخص غير مرغوب فيه. فكرت في أن أعود أدراجي من حيث أتيت، ثم طردت هذه الفكرة و استجمعت مشاعري و طرقت الباب.
لحظات قليلة ثم انفتح الباب و ظهر على عتبته أكرم. تجهم عندما رآني و ارتسمت على وجهه اشد علامات الضيق، فلو كان الشيطان ذاته هو من يطرق بابه لما كان أشد ضيقا و تجهما.
نظرت في عينيه للحظة محاولا تلمس أدني قدر من الود أو بقايا مشاعر الصداقة القديمة لكني لم أجد منها شيئا، و كأني أحاول صيد البطريق في الصحراء.
حاولت رسم أفضل ابتسامة لدي و سألته متلطفا:
-"هل ستدعني على الباب هكذا؟"
-"تفضل بالدخول".
قالها في جمود و هو يفسح لي الطريق لأمر داخل بيته الصغير. أشعر أن شكل المنزل تغير مقارنة باخر مرة رأيته فيها. مازال المنزل يحتفظ بذلك المزيج من البساطة و النظافة على الرغم من عدم وجود أي علامة من علامات الثراء، إلا أن لمسة من الذوق والجمال لا تخطئها العين قد زادت عليه.
جلست على اريكة في وسط الردهة و جلس هو على المقعد المواجه لها و لم يتكلم. حاولت ان أبدأ معه حديثا ولكني لم أجد موضوعا للحديث، فقط جلست شاعرا بالارتباك و العجز أمام نظراته الجامدة.
بدا أن هذا الوضع سيستمر الي أن يموت أحدنا، ولكن ما هي إلا لحظات حتى دلفت الي المكان فتاة شابة تغطي شعرها بإيشارب، و هزت رأسها بتحية مهذبة.
-"السلام على كم".
-مرحبا.
قلتها بارتباك لأني أعرف أن أكرم يعيش وحيدا. نظرت الفتاة الي أكرم نظرة متسائلة و كأنها تسأله عن كنهي. قالت بديبلوماسية:
-أهلا و سهلا بك، يبدو أنك من أصدقاء أكرم.
ثم نظرت الي أكرم و قالت:
-"ألن تعرفني بالأستاذ يا أكرم؟"
-"انا... "
-" هذا خالد حسني".
قالها مقاطعا في لهجة ذات مغزى. في الحال ارتسمت علامات الفهم على وجه الفتاة. يبدو أنها كانت تشعر انها رأتني في مكان ما و لا تذكر أين. بالتأكيد هي تري بعض الملصقات أو الإعلانات عن العاب الواقع. بالتأكيد هي لا تشاهد الألعاب ذاتها، فهي لا تبدو من هذا الطراز.
-"من فضلك أعدي لنا كوبين من الشاي".
-"حالا".
قالتها و انصرفت بعد أن ألقت على نظرة طويلة متفحصة.
-"هذه... "
-"حنان زوجتي".
قالها مقاطعا إياي قبل أن أسترسل في الكلام او في خواطري.
هذا إذا سبب تغير شكل المنزل. هذه الفتاة هي مصدر لمسة الذوق والتغيير التي أضيفت الي المنزل.
-"لم أعلم أنك تزوجت".
-"أكان واجبا على ان أستأذنك؟"
-"كلا ولكن... "
لم أكمل العبارة. بالتأكيد لم يكن أكرم ليدعوني الي زفافه، هذا شيء أعرفه يقينا، و على الرغم من هذا فقد كنت أتمنى أن يفعلها.
بعد دقائق جاءت زوجته حاملة صينية عليها كوبين من الشاي وطبق صغير من الحلوى و قدمتها الي.
-"إنها بمناسبة زفافنا أنا وأكرم".
-"زفاف مبارك".
بعد دقائق معدودة استأذنت في تركنا بمفردنا لكي "نتحدث بحرية" على حد قولها. لا داعي للتبريرات يا فتاة. أنت لا تريدين التواجد في مكان أكون انا فيه.
عندما انصرفت نظرت إلي أكرم وقلت له:
-"على الرغم من قصر فترة زواجك إلا أن زوجتك اكتسبت بعض من صفاتك".
نظر لي متسائلا
-"هي أيضا تكره فكرة وجودي في منزلكما. على الرغم من تعاملها المهذب إلا أنها لم تستطع أن تخفي هذا".
نظر لي في صمت مقاوما رغبته في الرد على ثم تغلب عليه طبعه العصبي المندفع.
-"المرء لا يحتاج الي أن يعرفني لكي يكره وجود قاتل في منزله".
-"أهي أيضا تري ان المقاتلين في العاب الواقع قتلة؟"
-"بالتأكيد. المرء لا يحتاج الي الكثير من الجهد ليدرك ان شخصا يقتل الاخرين لكي يسعد مجموعة من المتفرجين المرضي نفسيا هو قاتل".
على الرغم من أني ناقشت معه الأمر أكثر من مرة إلا أني وجدت نفسي مدفوعا في نفس النقاش القديم. انفعلت و علا صوتي و انا أرد عليه:
-"أنت تتحدث و كأني قاتل أجير أو رجل عصابات. أنا لا أقتل أحدا و هو جالس في بيته وسط أسرته ولأنتظر تاجراً في زقاق مظلم لأقتله مقابل أموال من منافسيه. كل المقاتلين يعلمون من البداية ان كل معركة في العاب الواقع لابد أن تنتهي بقتل الجميع الي أن يبقي مقاتل واحد، و لقد ارتضوا هذا و وقعوا عقدا ينص على هذا، ولم يجبروا على شيء. لاحظ أن اللاعبين يخوضون هذه المعارك مقابل المال، هم لا يضحون بأنفسهم في سبيل قضية قومية أو مبدأ إن لم تكن لاحظت هذا".
-" أعلم ما تقول، و لكن يبقي... "
قاطعته مكملا:
-"الفرق بيني و بينهم هو تفوقي عليهم. انا أخوض المعركة تلو الأخرى و أتغلب على البلهاء الاخرين في معارك متكافئة، ولا أحسبك من الغباء بأن تلوم على تفوقي، الذي لم يأتي من فراغ أو بالصدفة، و إنما جاء بالمران والقراءة المستمرين. كلهم يدخل المعركة و أملا في أن يقتلوني و يفوزوا بما أفوز انا به من الشهرة و المال".
-"لا تسيء فهمي، انا لا أراهم أفضل منك لأنك تقتلهم قبل أن يقتلوك. أنتم مجموعة من السفاحين المقامرين، تكسبون المال بإراقة الدماء، و تقامرون على حياتكم في سبيل المال و الشهرة. كلكم تستوون في هذا".
نظرت اليه في صمت ولكنه استمر كقطار يسير بلا مكابح:
-"هل هذا هو ما تربيت عليه؟ هل هذا هو ما تعلمته من قراءاتك وثقافتك؟ ان الناس تتنافس في أن تقتل بعضها البعض؟ هل صارت القراءة وسيلة لتتعلم بها كيف تكون خبيرا في قتل الاخرين؟"
-"تربيت عليه؟ أي تربية تقصد؟ أتقصد التربية هنا في هذا الحي القذر، بدخل منعدم بينما المدينة بها من الأغنياء من لا يدري كيف يصرف أمواله؟ الثقافة التي تتحدث عنها لا تغني شيئا في هذا العصر. هل استطاعت مبادئك و أخلاقك و تدينك أن تنتشلك من هذا الحي القذر، على الرغم من أن الحقراء يحيون في قصور؟"
-"لهذا اخترت الحياة في القصور و تكون حقيرا مثلهم".
قالها مقاطعا إلا أني أكملت و كأني لم أسمعه
-"هذه مدينة مليئة بالبلهاء. ربما كانوا مرضي نفسيين مثلما تقول أنت، إلا ان هؤلاء المرضي بيدهم تقديم المال و الحياة الكريمة. كل ما أفعله هو أني أرضي هؤلاء الحمقى لأنال هذه الحياة الكريمة. "
-"حتى لو كان هذا بالمقامرة بحياتك و قتل الاخرين؟"
-"حتى لو كان هذا بقتل البشر جميعا إن ارتضوا قبول المخاطرة و دخول اللعبة".
نظر لي نظرة من طراز (لا-فائدة-من-الكلام معك) و لم يعقب. أكملت حواري وقد بدأت أشعر بالغضب من أنه وضعني في موقف المدافع عن نفسه- و هو ما يحدث في كل مرة نناقش فيها نفس الموضوع.
-" أنظر إلى نفسك. أنظر الي المكان الذي تعيش فيه و الدخل الذي تعيش به. أشخاص كثيرون أقل منك علما و عقلا يرفلون في الثراء، و أنت تعيش بدخل شهري أقل مما ينفقه أحدهم على حيوانه الأليف. لقد كانت أمامك الفرص لتعيش مثلهم بل و أفضل منهم إذا أردت، فما الذي اكتسبته من تمسكك بالدين و المبادئ؟"
-"اكتسبت الكثير. اكتسبت احترامي لنفسي. يكفي أن أنظر الي نفسي في المرآة دون أن تراودني الرغبة في أن أبصق على صورتي في المرآة، وأضع رأسي على وسادتي ليلا مستريح الضمير. اكتسبت نظرة الاحترام في عيني زوجتي، و الأهم من كل هذا أني أرجو أن أكتسب رضا الله. أتذكر شيئا يدعي رضا الله أم تراك نسيت معني هذه الكلمة؟".
مازال أكرم كما هو، لا يتغير. مازال نفس الطفل الذي يثور أن شتمه المدرس و يفضل أن يضرب بالعصي على أن يهان أو تجرح كرامته.
-"دعك من هذا الكلام الذي لا معني له عن الضمير و الاحترام".
نظر في عيني بعمق و كأنما يستشف هل فعلا لا أؤمن بهذه الكلمات ثم قال في هدوء:
-"هناك شيء واحد يحيرني. ما الذي يدعوك الي زيارتي بانتظام؟ أنت شخص ثري شهير يتمني نصف مشاهير و أثرياء المجتمع على الأقل قضاء لحظات معك، فلم تأتي لزيارة شخص بسيط مثلي؟
قلت بارتباك:
-"أنت صديقي منذ الطفولة و قد تربينا و نشأنا سويا و.... "
قاطعني متسائلا:
-"ولكننا اتخذنا سبيلين مختلفين تماما في الحياة، و أنت تعلم أني أعارض عملك تماما، فلماذا تكلف نفسك عناء زيارة شخص يرفض أسلوبك في الحياة و تقضي الوقت في محاولة إقناعه بأنك إنسان لا بأس به؟
هذه هي المسألة كما يقول هاملت. لقد سألني أكرم السؤال الذي قضيت الشهور و السنين في محاولة يائسة لطرده من ذهني لأني أعلم يقينا أنه سؤال بلا إجابة. ما الذي يجذبني الي أكرم؟ أو بعبارة أدق، ما الشيء الذي يملكه أكرم و أحتاج اليه؟ أهي مجرد محاولة لحفظ العلاقة بصديق الطفولة؟ لا أعتقد، فالكثير من أصدقاء طفولتي لم أرهم منذ ما يزيد على عشر سنوات، ولو لمحتهم في الشارع اليوم لما كلفت نفسي عناء النزول من سيارتي للسلام عليهم. أهو مجرد حنين الي رؤية المكان الذي نشأت فيه و الذي أكن له ذكريات الطفولة على الرغم من امتعاضي منه الان؟ كلا، يمكنني أن أري المكان دون أن أزور أكرم. يمكنني التجول فيه بسيارتي أو على قدمي – معظم الشوارع هنا ضيقة لا تستوعب سيارة لتمر فيها- وأعود دون المرور ببيت أكرم أو دون زيارته، فما الذي يدفعني الي زيارته على الرغم من علمي المسبق بأني شخص غير مرغوب فيه في بيته؟
دارت هذه الأفكار في رأسي دون أن أجد لها إجابة. بعد فترة من الصمت بدا وكأنها ستدوم الي الأبد أجبت أكرم:
-"هل ستصدقني إن قلت إني لا أدري فعلا ما الذي يدفعني لزيارتك؟".
-"نعم سأصدقك".
قالها و كأنما يتوقع الإجابة. هذا منطقي، فلطالما شعرت ان هناك نوعا من تبادل الأفكار بيني و بين أكرم. كان هذا سلاحا ذا حدين. لطالما كنت أستمتع بهذا حين كنا نقوم سويا بحيل الطفولة البسيطة التي كنا نقوم بها لمضايقة المدرس أو أحد زملائنا- حين يكون الدرس صعبا أو يكون المدرس مملا و نشعر بالحاجة لبعض الترفيه- و التي عادة ما كنا نتلقى بسببها العقاب و أحيانا تمر دون أن يكتشف الفاعل. يكفي أن أنظر اليه و أتبادل معه بعض الإشارات ليفهم ما أريد و نبدأ التنفيذ فورا. و لطالما أغاظني قدرته على معرفة ما أفكر فيه حين كبرنا قليلا و بدأت اختلافات التفكير بيننا في الظهور. كنت أبدأ معه الحديث في موضوع ما لأجده يعلم ما أفكر فيه و ما أنوي فعله و عادة ما كان ينتقد تفكيري، وكل هذا بعد أن أكون قد قلت أول خمس كلمات من الموضوع.
نظرت في ساعتي- دون داع في الواقع، فليس لدي اليوم أي ارتباطات أو مواعيد ولكني أرغب في الهرب من هذا الموقف بأي ثمن- ثم قلت له:
-"لقد أطلت على ك. شكرا على هذا الوقت الذي قضيته معي. و الآن اسمح لي بالانصراف".
قلتها و قمت متوجها الي باب المنزل و فتحته و خرجت.
-"بلغ زوجتك تحياتي و تهنئتي بالزواج".
قلتها و أنا على وشك نزول درجات السلم المتآكلة.
-"خالد".
قالها أكرم مستوقفا إياي قبل نزولي. نظرت له متسائلا.
-"لا تظن أني أرفض زيارتك لي. مرحبا بك في أي وقت".
قالها في هدوء يشوبه بعض الحزن، و كأنما آلمه ما قال لي، أو ربما آلمه ما صار اليه حالي و ما صارت اليه صداقتنا.
نظرت له وابتسمت ثم هبطت درجات السلم دون تعلى ق. مازال صديق الطفولة القديم- الذي كان على استعداد لأن ينال علقة ساخنة في معركة غير متكافئة دفاعا عني حين يتحرش بي بعض الصبية الأوغاد- يعيش بداخله.
قدت السيارة بسرعة بطيئة نسبيا متوجها الي منزلي. في الطريق مرت بجواري سيارة فاخرة بها بعض الفتيات.
بلهاوات. هذه هي الكلمة التي قفزت الي ذهني حين رأيتهن. السيارة فاخرة غالية الثمن فبالتأكيد هن ثريات. بالطبع الثراء ليس دليلاً على التفاهة، ولكن مظهر هؤلاء الفتيات كان يدل على هذا. تسريحات شعر عجيبة تقبحهم ولا تجملهم و ملابس متبرجة و مظهر عام لا يدل على الرقي الفكري.
رأتني إحداهن فارتسمت في عينيها علامات الاندهاش الأبله ثم نظرت الي صديقاتها و أشارت الي. المرء لا يحتاج لأن يكون خبيرا في التمثيل الصامت ليفهم ما تقوله لصديقاتها. أنظروا هذا خالد حسني.
لم أكلف نفسي حتى عناء رفع يدي لأحييهن. كنت أراقبهن بعيني ولكن أفكاري كانت في مكان بعيد.