فصل ـ 8 ـ

17 0 00

 قال الخواجة أندريا وهو يدفع أمامى الطبق الكبير بأصابعه :

ـ المياس هو أجمل أنواع السمك فى المينا الشرقية ..

تذكرت السؤال :

ـ لماذا يسمونه صيد العصارى ؟

 ـ لأن أنسب أوقات صيده ساعات العصارى ..

وأشار بيده ناحية البحر :

ـ ألا تلحظ تعدد البلانسات فى ذلك الوقت ؟

 وحدجنى بنظرة متسائلة :

ـ أظن أنك تحبه ؟

 قلت :

ـ أفضله بالبطاطس ..

ـ المهم أن تحبه . نورا ترفض السمك على المائدة ..

كرر قوله إن أجمل المياس صيد العصارى . ترصه زوجته فى الصينية . تضع خلاله وفوقه ، شرائح البطاطس والبصل المبشور والطماطم . ترش الملح والفلفل الأسود . يعود البواب بالصينية من الفرن ، أكلة لا تنسى .

وابتسمت عيناه :

ـ هذا ما ستفعله ليليان فى المرة القادمة ..

قالت نورا :

ـ نحن نحتفل معك بعيد 28 مايو ..

استطرد الخواجة أندريا :

ـ الأرمن ـ حتى المقيمون فى المنفى ـ يشاركون حزب الطاشناق احتفاله بعيد قيام أول حكومة فى العصر الحديث ..

ثم وهو يهز رأسه :

ـ ظلت حوالى ألف يوم فقط .. لكنها أول حكومة مستقلة بعد مئات الأعوام من سقوط آخر ممالك الأرمن ..

ولجأ إلى العد بأصابعه :

ـ احتفالاتنا كثيرة .. فى 24 إبريل نحتفل بعيد الشهداء ، اليوم الذى أعطيت فيه إشارة البدء لقتل مليون ونصف المليون أرمنى سنة 1915 على أيدى القوات العثمانية . فى 26 يوليو نحتفل باليوم الذى اخترع فيه القديس الأب ميسروب ماشتوتس الحروف الأرمنية ..

ولانت ملامحه :

ـ احتفالاتنا كثيرة ..

ألفت التردد على البيت . أجلس فى الصالة . يستعيد الخواجة أندريا ذكرياته . تشرق أحاديثنا وتغرب . يكتفى يوسف ويعقوب ـ إن كانا داخل البيت ـ بالتحية السريعة ، ويمضيان إلى حجرتهما ، أو إلى خارج البيت ..

تحدث عن عضوية أبيه فى حزب الأرمينا جان ، أول الأحزاب السياسية الأرمنية . أسسه عدد من المدرسين الشباب . قصر هدفه على تحرير أرمينية . لم يصله بأهداف سياسية ولا اجتماعية . التحرير هو الهدف الأول ، وهو الهدف الأخير ..

وهو يأخذ طبق الشاورمة من أمام يعقوب :

ـ تحب الشاورمة ؟

 أومأت بالموافقة ..

قال :

ـ هل تعرف أن الشاورمة أكلة أرمنية ؟

 قلت فى لهجة مجاملة :

ـ كنت أظنها شامية ؟

 ـ بل أرمنية . نقلها المهاجرون الأرمن من بلادهم ..

وعلا صوته بالانفعال :

ـ عزلة الشعب الأرمنى أفادته فى الاحتفاظ بشخصيته ..

قالت الأم :

ـ نحن نحرص على الزواج فيما بيننا ..

قلت بعفوية :

ـ لماذا ؟

 ـ هذا ما يحدث ..

قال الخواجة أندريا :

ـ ربما لحفظ التواصل العرقى بين أبناء الأرمن !

ـ وحالات الزواج من غير الأرمن ؟

 ـ تصرف لن يدخل صاحبه النار .. لكن هذه هى عادة الأرمن !

كانت نورا تتجه بنظرتها ناحية البحر . خذلنى الحدس ما إذا كانت قد استمعت إلينا ..

تحدث الأب عن الشعور بعدم الأمان الذى بدّل عادات الأرمن . تحايلوا على الأتراك ، فارتدوا ملابسهم . وضعت النساء البراقع على الوجوه . تزوجت الفتيات فى سن مبكرة . تحدث عن تكيف الأرمن ـ بعاداتهم وتقاليدهم ـ مع المجتمع المصرى ، وإن لم ينصهروا فيه . ظلت لهم سلوكياتهم التى يحرصون عليها ..

قال الخواجة أندريا :

ـ من الناحية النظرية نحن لسنا أجانب .. كنا رعايا الدولة العثمانية ..

وأشار إلى صدره بأصابعه المضمومة :

ـ أنا شخصياً دفعت البدلية ..

ثم فى صوت هامس ، كأنه يخاطب نفسه :

ـ أظن أن الكنيسة الأرمنية كان لها دور فى احتفاظ الأرمن بقوميتهم ..

وركز عينيه فيما لم أتبينه :

ـ آباء الكنيسة هم قادة الشعب الأرمنى خارج بلاده ..

ووضع يده ـ بود ـ على كتفى :

ـ أنا دائم التردد عليها ، ولى فيها صداقات ..

تحدث عن نادى " ديكران يرجات " بالإبراهيمية . أقدم ناد أرمنى فى مصر . قال إنه يقضى فيه أوقات فراغه ..

قالت نورا :

ـ أنا وأخوتى أعضاء فى نادى سموحة !

تحدث الخواجة أندريا عن مواطنة الدرجة الثانية التى عومل بها الأرمن فى بلادهم : عدم قبول شهاداتهم فى المحاكم ، منعهم من حمل السلاح ، إلزامهم بدفع الجزية ..

قال :

ـ لاحظت أنى والمدام وحدنا نعرف ماذا جرى ، فشجعت نورا على وضع رسالتها ..

وتلون صوته بحزن :

ـ حتى الولدين لا يعرفان شيئاً عن أرمينية ، ولا عن الأرمن ..

وأغمض عينيه ، وهز رأسه :

ـ هما مصريان ..

قلت :

ـ هل هذا خطأ ؟

 ـ الخطأ أن أنسى جذورى !

وعاد الانفعال إلى صوته :

ـ أرمينية هى الصورة الأولى للوطن !

لاحظت أن أفراد الأسرة يتحدثون بلغة أجنبية ـ هى اللغة نفسها التى يتحدث بها الدكتور جارو ونورا . أدركت أنها الأرمنية ـ لا يغيرونها إلا إذا كنت مشاركاً فى المناقشة .

التقط الخواجة أندريا ملاحظتى . قال :

ـ حاول الأتراك محو لغتنا ، وحاولوا قتل عاطفتنا القومية ، لكنهم لم يفلحوا ..

وغمز بعينه اليسرى :

ـ كما ترى ، نحن نحتفظ فى المهجر بلغتنا ومشاعرنا القومية .

 ***

سحب الخواجا أندريا الناى من الحائط . قال :

ـ أنا أجيد استعمال الناى ..

ثم وهو يمسد الناى براحته :

ـ تعلمت على يد أمين بوزارى أشهر عازفى الناى القدامى ..

أدركت من إغماض عينيه ، وانهماكه فى العزف ، أنه قد استغرق فى حالة حنين . لمحت فى عينيه الدمع ، بعد أن أتم العزف وأعاد الناى إلى موضعه ..

قلت مداعباً :

ـ أين كنت يا خواجة أندريا ؟

 اكتفى بهز رأسه . ظل صامتا .

قالت نورا :

ـ هل تريد سماع أغنية أرمنية ؟

 عزف عليه ، وغنت نورا بكلمات أرمنية ، لم أفهمها ، لكن صوتها بدا جميلاً ..

قالت :

ـ هل أجيد الغناء ؟

 قلت :

ـ جداً ..

قال الخواجة أندريا :

ـ حتى الثالثة من عمرها تقريباً كانت نورا تتكلم بالأرمنية ، ثم حرصنا على أن تقتصر أحاديثنا أمامها على العربية ..

ثم وهو يربت خدها :

ـ هى الآن إسكندرانية تماماً ..

قلت لمجرد أن أتجه إليها بالسؤال :

ـ لاحظت أن معظم أسماء العائلات الأرمنية تنتهى بحرفى " يان " ..

مطت شفتيها ، وقالت :

ـ لم ألحظ الأمر ..

وأدارت خصلة الشعر حول إصبعها :

ـ ربما لأن المقطع يان فى ختام معظم الأسماء يعادل ياء النسب فى اللغة العربية ..

وقطعت الصمت الذى حل فجأة :

ـ تعال نجلس فى حجرتى ..

السرير الخشبى الصغير فى جانب الباب ، تعمدت ألا ألتفت إليه . الأنتريه الأسيوطى ـ كنبة وكرسيان ـ ظهره إلى النافذة المطلة على الشارع . المكتب الصغير لصق الجدار ، فوقه آلة كاتبة ، الكومودينو من خشب الزان ، تعلوه مكتبة ذات ثلاثة أرفف بضلفتين من الزجاج ، وإلى جانبه ما يشبه الدولاب الصغير ، أسفله ضلفة مغلقة ، وأعلاه أدراج مفتوحة صفت فيها اسطوانات . صف فوقه تماثيل صغيرة من الصلصال ، لمجموعة عازفين تختلف الآلات التى أمسكوا بها . على الأرض فروة خروف فرشت كسجادة . علقت على الجدران صور عائلية ، وجوه ، وصور زفاف ..

لم تكن المكتبة مقتصرة على الكتب التاريخية . ما تطلبه فى إعداد رسالتها . تلاصقت قواميس بالعربية والفرنسية ، وكتب فى السياسة والاقتصاد ، وأعداد من روايات الجيب ..

ـ قراءة للدراسة أم لمجرد المعرفة ؟

 تكلمت عن مصادر الرسالة ومراجعها . فرض التنوع عليها أن تتقن الأرمنية والعربية والفرنسية ، وتحاول فهم التركية والإنجليزية والروسية . الكتب والصحف والمخطوطات والرسائل والوثائق لا حصر لها ، مطبوعة وغير مطبوعة . مذكرات وذكريات وبحوث ولوائح وقوانين ومراسيم ومراسلات وتقارير وألبومات مصورة . حتى دفاتر وفيات المطرانية الأرمنية التى لم يسبق نشرها ، عادت إليها . تتعرف على أسماء النازحين ، والمدن التى نزحوا منها ، والمدن التى استقبلتهم فى أثناء النزوح . حتى برامج الحفلات الاجتماعية والفنية والثقافية توضح المشهد فى خلفية الصورة . همها أن تحسن القراءة والمتابعة والفهم ، والتوصل إلى النتائج الصحيحة ..

التقطت عنوان كتاب " تاريخ الدولة العلية " لمحمد بك فريد . حدست أنه كان للخواجة أندريا من صفرة الورق ، وغلبة خطوط القلم الحبر فى دوائر وتقاطعات وتشابكات .

قلت :

ـ هذا الكتاب كان بداية اهتمامى بالكتب السياسية . اشتريته من مكتبة بالعطارين ..

أكدت حدسى :

ـ حصلت عليه من أبى . به معلومات عن دولة الخلافة ..

وتنهدت :

ـ كنت أتوقع من الدكتور جارو فائدة أكثر ..

ـ أتصور أن هذا ما حدث ..

ـ كرر وأغفل تواريخ مهمة ..

وهزت كتفيها :

ـ لعله تقدم العمر !

ـ ألا يوجد من تستكملى عنده المعلومات التى تطلبينها ..

ـ عرفت من أبى أنه هو الوحيد الذى شهد المذابح ..

شردت . اتجهت عيناها إلى نقطة غير مرئية :

لما بدأت فى الاستماع إلى أحاديث الدكتور جارو عن أرمينية . لم أكن أعرف أين هى ، ولا الظروف التى تعيشها بعد أعوام التهجير . ثم عرفت ما كان غامضاً ، أو ضبابياً ، فى انشغال نورا برسالتها . أبحث عن مراجع للرسالة فى مكتبات العطارين ، أقرأ ما تكتبه من بطاقات ، أستوضح ما لا أفهمه . أكتفى بالإنصات وهى تتكلم ، كأنها تتجه بكلماتها إلى أفق البحر أمامنا ..

فى لحظة ـ لا أذكرها ـ تبينت أنى لا أبحث فى تاريخ مذابح الأرمن . أنا أبحث عن جذورى . نشأتى فى الإسكندرية . لكن أبى وأمى قدما من مدينة أخرى ، من وطن آخر .

منذ بدأت الإعداد للرسالة . القراءة وتجميع البطاقات . داخلنى شعور أنى أختلف عن زملائى فى الكلية ، ومن أعرفهم بعيداً عن أسرتى . حتى الملامح ، تنبهت إلى أنها تختلف عن ملامح من أعرفهم من الأرمن . لاحظت أنى بدأت أطيل النظر ، وأتأمل . ربما طرحت المقارنة . لم أدرك ـ على وجه التحديد ـ متى استقر شعورى بأنى أنتمى إلى وطن ـ لم أره ـ يبعد عن الإسكندرية بآلاف الكيلومترات .

تحدثت عن قراءاتها فى التاريخ والسياسة . ترددها على الأتيلييه ، وعلى تياترو محمد على ، تشاهد عروض الفرق الموسيقية والباليه والأوبرا . حضورها للحفلات الموسيقية فى نادى ديكران يرجات . حبها لأعمال رينوار وماتيس وشاجال وبيكاسو ومانيه . رحلاتها خارج المدينة مع طلاب الجامعة . ممارستها لرياضة المشى على رصيف كورنيش المينا الشرقية .

قلبت فى أدراج الدولاب الصغير . أوبرات كارمن وعايدة وشهرزاد ودون جوان . سيمفونيات لبيتهوفن وشوبان وموزار . مقطوعات كلاسيكية لفردى وكليمنتى ..

قلت :

ـ هل تستمعين إلى أغنيات مصرية ؟

 حدجتنى بنظرة دهشة :

ـ أحب أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وليلى مراد ..

استطردت فى تنبه :

ـ وأحب ألحان سيد درويش .

ثم وهى تهز كتفيها :

ـ صوته لا يعجبنى !

ومالت بفمها على أذنه :

ـ هل أسمعك شيئاً ؟

 سحبت من المكتبة الصغيرة كتاباً منزوع الغلاف ، مهترئ الصفحات . أعفتنى من تخمين اللغة التى كتب بها فى قولها :

ـ هذا ديوان بالأرمنية ..

ـ هل تجيدين الأرمنية ؟

 ـ طبعاً ..

ـ لكنك من مواليد الإسكندرية ..

أمنت بهزة من رأسها :

ـ وتخرجت فى مدرسة راهبات الأرمن الكاثوليك قبل أن أدخل الجامعة ..

وعلا صوتها فى تذكر :

ـ كيف أقرأ وثائق الرسالة لو لم أتقن اللغة التى كتبت بها ؟

 وبدأت فى القراءة ..

استعارت صوتاً أضاف عمقاً إلى رقة صوتها :

ترى إلى أين تحملين يا روحى المعذبة

 صليبك الخشبى الأسود ؟

 أثمة جمجمة جديدة لكى تصعدى فخورة

 حيث ينظر الجميع إلى إكليلك المضىء

 بحب جارف ؟

 هل أنت مثل يسوع تصعد الجبل ؟

 أم أنت مجرد لص حكم عليه بالموت ؟

 وهل كل إنسان هو بيلاطس

 الذى يغسل أمامك يديه ؟

 أى إكليل مضى ؟

 وكيف تصعدين يا روحى

 طوعاً فى طريق الآلام ؟

 وأنت لا تعرفين حتى نفسك

 إن كنت يسوع أم يهوذا ؟

 هل لديك يا روحى ميزان دقيق حاسم

 كى تزنى هذا الفكر الطليق

 فى انتصاف الليل الحالك لعذابك الأليم ؟ ( * )

لم ألحظ انقضاء الوقت حتى بدت الشمس قرصاً أحمر فى نهاية الأفق . شدنا الحوار . أسأل وتجيب ، تسأل وأجيب . نتأمل ، ونبدى الملاحظات ، من شرفة غرفتها ـ حركة الحياة فى طريق الكورنيش .