واصل تقليب جواز السفر ، كأنه يتأكد من أنه حصل عليه . غمغم بكلمات غير واضحة ولا مترابطة ، وإن عكست الفرحة فى داخله ..
قلت :
ـ هل هذه هى المرة الأولى التى تحصل فيها على وثيقة سفر ؟
ـ عندما قدمت إلى مصر اكتفيت بتجديد الإقامة ..
لاحظ دهشتى من أنه استخرج الجواز للمرة الأولى . ألم يغادر مصر طيلة تلك السنوات ؟
حدثنى عن رحلته الوحيدة خارج مصر ، بعد ثلاثة أعوام من استقراره بالإسكندرية . سافر إلى الشام ليلتقى بأفراد من رحلة النفى . أعياه النبش بأصابعه فى كومة القش . تحدد الموطن فى الإسكندرية ، لا يغادرها .
شرد بنظره إلى نقطة غير مرئية :
ـ لم أفكر فى أنى قد أعود إلى أرمينية ..
ثم وهو يدنى فنجان القهوة من فمه :
ـ أريد أن أحتسى هذا الفنجان هناك ..
قلت :
ـ هل نسيت المذابح ؟
ـ إذا استعدت الماضى فأنا أخلصه من كل الذكريات السيئة !
حدثنى عن رسالة من أرمينية . جميل أن أجد ـ بعد هذا العمر ـ من يراسلنى . عد إلى الوطن لتقضى فيه ما بقى من حياة ..
يسلمه الشرود إلى الحياة فى أرمينية ، إلى البنايات والشوارع الضيقة المغطاة بالأسقف والكاتدرائيات والكنائس وجبال القوقاز ، والبحر الأسود وبحر قزوين ونهر أراكس وبحيرة سيفان وجبل أرارات ، سقف العالم ..
ـ هو إذن يعرف أنى فى لحظات النهاية ..
ـ لك طول العمر . أثق أنهم يحنّون إليك مثلما تحنّ إليهم ..
قال :
ـ أفكر فى العودة إلى أرمينية ..
ـ لماذا ؟
ـ هذا أفضل ..
ـ كنت ترفض العودة إلى الحكم الشيوعى بعد انضمام أرمينية إلى الاتحاد السوفييتى فى 1922
ورمقته بنظرة مستفهمة :
ـ ما أعرفه أن الأمور لم تتغير ..
ـ ليس صحيحاً . آلاف من المهاجرين عادوا إلى أرمينية فى السنوات الأخيرة ..
ـ لماذا ؟
وهو يشيح بيده :
ـ لماذا .. لماذا .. ربما لأن الأوضاع تغيرت ..
ثم فيما يشبه الضيق :
ـ أنا أرمنى ، ولست سوفييتياً !