فصل ـ 7 ـ

19 0 00

 كنا نجلس على الكورنيش الحجرى . ندلى سيقاننا إلى داخل البحر . يلامسها رذاذ الموج فى اصطدامه بالمكعبات الأسمنتية . أفق المينا الشرقية يمتد إلى ما بعد حاجز الأمواج بين السلسلة وقلعة قايتباى . مساحات من الزرقة المتصلة بلا انتهاء ، أو حتى التقاء السماء بها . وثمة صياد توقف عن التجديف . ترك القارب يطفو فوق الأمواج الهادئة . وكانت الشمس شديدة البياض ، فلا نستطيع التحديق فيها ، ولا حتى مجرد النظر إليها .

انشغلت بتأمل السمكات وهى تنتفض . تحاول القفز خارج الغزل ، أو النفاذ منه ..

قالت :

ـ أكره أن ينتزع السمك من الماء ، مثلما أكره أن يعدم الإنسان ..

وأرخت رموشها الطويلة على عينيها :

ـ الأرض هى دنيا الإنسان ، والمياه هى دنيا السمك ..

قلت :

ـ أحل الله صيد السمك ..

ـ أنا أتحدث عن قناعتى ..

واتجهت ناحيتى بملامح متسائلة :

ـ لماذا يطلق على المياس صيد العصارى ؟

 ـ لأن صيده يتم ـ غالباً ـ وقت العصر ..

ـ لماذا ؟

 وأنا أظهر الحيرة :

ـ اسألى الصيادين !

ـ ألست من بحرى ؟..

ـ صلتى بالسمك هى تناوله على المائدة ..

تحدثت عن البحر والصيد والصيادين . فى زراعة الأرض لابد أن نبذر الحب ، ونتعهده بالرى ، ثم ننتظر الثمار . نحن فى البحر نكتفى بإلقاء السنارة ، أو الشباك .

كانت تعرف كل ما يتصل بالصيد . مناطق تجمع الأسماك ، وطرق صيدها . وكانت تعيب على صيادى الطراحة والجرافة أنهم يلقون فى المياه شباكاً ضيقة الثقوب ، فتصعد بالزريعة الصغيرة ..

حلق غراب من فوقنا . أخفضت رأسها ، وأشاحت بيدها :

ـ أكره هذا الطير ..

ـ هل آذاك ؟

 ـ إنه يأكل ما فوق الماء من سمك الدينيس ..

ـ لماذا الدينيس ؟

 وهى ترفع كتفيها :

ـ وجبته المفضلة !

صارحتنى بأنها تجد نفسها فى منطقة ما بعد ميدان أبى العباس : السيالة وحلقة السمك وشاطئ الأنفوشى وورش المراكب والكبائن الخشبية والباعة وطائرات الأولاد الورقية ، والحديقة الواسعة أمام سراى رأس التين ..

قالت :

ـ أنا أحب أن أتحدث إلى البحر . مجرد أن أنظر إليه بما فى داخلى ..

ثم وهى تدير خصلة الشعر بإصبعها :

ـ ميزة البحر أنه يبتلع كل شئ .. حتى الأسرار ..

ـ أسرارك كثيرة .. إذن لا يسعها إلا البحر ..

ـ أبداً .. لكننى أثق فى صمت البحر ..

ظللت صامتاً ، وإن استحثثتها ـ بنظرة مشجعة ـ على مواصلة الكلام . قالت :

ـ كل شئ يذهب إلى البحر .. حتى مياه النهر تنتهى إلى البحر ..

وواجهتنى بالسؤال :

ـ هل تجيد العوم ؟

 قلت :

ـ منذ سنوات أكتفى من البحر بالتطلع إليه ..

 ***

احتضنت ركبتيها ، وحدقت فى أفق المياه الممتد ..

فاجأتنى بقولها :

ـ أنت لم تدعنى لزيارتك ..

ـ خشيت أن ترفضى ..

ـ ألا تقيم مع أهلك ؟

 ـ مع والدتى .. أبى مات منذ ثمانى سنوات .. وأختى متزوجة ..

ـ أنا أقيم مع أبوى وإخوتى .. ولدان يوسف ويعقوب يملكان مكتباً للتصدير والاستيراد ..

ثم وهى تهز رأسها :

ـ تحدثت إليهم عنك ..

ومدت يدها للمصافحة :

ـ نحن نرحب بزيارتك ..

البيت يطل على المينا الشرقية . فى منتصف المسافة بين تمثال الخديو إسماعيل وقهوة المطرى . البيوت المتقاربة الارتفاع ، المتشابهة القسمات . ستة أو سبعة طوابق ، جدران تآكلت من ملوحة البحر ، مداخل رخامية فسيحة بلا مصاعد ، نوافذ وشرفات خضراء ، مرتفعة بارتفاع الجدران ..

تأكدت من العنوان فى الورقة . ثم ضغطت على الجرس ..

طالعنى من وراء الباب الموارب وجه نورا ..

قالت :

ـ أهلاً ..

وفتحت الباب ..

عرفت أنهم يتوقعون زيارتى ..

أشارت إلى شيخ فى حوالى الخامسة والستين :

ـ أبى .. الخواجة أندريا بابيجيان ..

فى وجهه شىء مميز لم أدركه . ربما الجبهة المرتفعة ، أو الحاجبين الكثيفين ، أو العينين النفاذتى النظرة بما لا يتفق مع تقدم سنه . تناثرت فى ذقنه شعيرات بيضاء لم يحسن إزالتها . يرتدى قميصاً أبيض يكشف عن صدر يفز شعره الأبيض ، الكث ..

قال :

ـ تقديم لا يخلو من مجاملة .. أنا مجرد صاحب ورشة صغيرة لتجارة الجلود ..

وأمسكت نورا بساعد سيدة فى أواخر العقد السادس :

ـ أمى .. السيدة ليليان .. خير من تطرز القطيفة بالخيط الذهبى ..

أميل إلى السمنة . أجادت صبغ شعرها لولا الشعيرات البيضاء البازغة فى المفرق ، أوسط الرأس . لها وجه طفل ، يخفى حقيقة عمرها ، أبيض ، مشرب بحمرة . يعلو عينيها حاجبان مثل هلالين صغيرين . ترتدى فستاناً أبيض واسعاً ، تناثرت عليه دوائر زرقاء ، أحاطت معصمها بغوايش كثيرة ، تحدث صوتاً إذا تحركت يدها . لفت منديلاً من الحرير حول رقبتها ، وتتدلى على صدرها سلسلة ذهبية ، تنتهى بصليب . تدس قدميها فى حذاء مكشوف ، أطلت منه أصابع طليت أظافرها بالمانيكير ..

الشقة مربعة الشكل ، تتوسط الصالة حجراتها الأربع ، تناثر فيها كراسى من خشب الأبنوس المطعم بالذهب ، وثمة ردهة ـ ضيقة نسبياً ـ تفضى إلى المطبخ والحمام وشباك المنور المغلق . الجدران مغطاة بورق رسمت عليه ورود زرقاء متباينة الأحجام . ينسجم لون الستائر مع زرقة الجدار . توسطت الجدار مرآة هائلة فى إطار مذهب . ثمة ـ فى الجانب ـ شمعدان كبير من الفضة ، إلى جانبه تمثال صغير للعذراء تحمل وليدها . تدلت من الجدران مشغولات يدوية من الكانفاه والسرما . فوق الطاولة الرخامية تماثيل صغيرة لطيور وحيوانات ، تتوسطها سلة فاكهة من الخوص ، بداخلها تفاح وخوخ وكمثرى .

قالت الأم وهى تشير إلى المشغولات المتدلية من الجدران :

ـ التطريز وسيلة لشغل وقت الفراغ ..

قال الأب :

ـ نورا حدثتنا عنك ..

وأنا أبتسم :

ـ قطعت فروتى ؟

 ـ بل ألبستك ثوباً من الذهب ..

أردف بلهجة متفاخرة :

ـ تحدثت كثيراً عن مواقفك ضد اليهود ..

ـ ليست ضد اليهود ، فلى منهم أصدقاء . أنا ضد ما يحدث فى فلسطين ..

قالت الأم :

ـ يقول الخواجة إن انشغالك بقضايا السياسة زاد من اهتمامها بإنجاز رسالتها ..

قلت بعفوية :

ـ ما الصلة ؟

 قال :

ـ أصعب الأمور أن يطرد شعب من بلده ..

وارتجفت عضلة فكه :

ـ شهدت أرمينية أول إبادة جنس جماعية فى هذا القرن ، ثم تلتها بعد ثلاثة عقود محاولة إبادة الشعب الفلسطينى ..

قلت :

ـ الأرمن عادوا إلى بلدهم .. ويعودون ..

وفى لهجة معتذرة :

ـ فى فلسطين .. الوضع يختلف ..

تحدث عما فعله العثمانيون فى أرمينية عقب احتلالهم لها . نقلوا إلى الأستانة أربعين ألفاً من الحرفيين والصناع الأرمن . عملوا فى الحرف والصناعات الدقيقة والمشغولات الذهبية ، وفى مناجم الفضة ، وفى الخياطة والحفر والتطريز واللحام والخراطة ، ومهن أخرى كثيرة ..

ثم اتجه بعينيه ناحيتى كأنه يتأمل رد الفعل لما قاله ..

ـ الشىء نفسه فعلوه فى المصريين بعد أن احتلوا بلادهم ..

تحدث بلهجة تخلو من الكلفة . روى عن قدوم أبويه من أزمير ، فى هجرة الأرمن أواخر القرن التاسع عشر . آلاف الفارين من المذابح والمجاعات . استوعبتهم الخيام والعشش فى أفنية الكنائس والمدارس الأرمنية ، ثم خرجوا إلى وظائف الحكومة ، والحرف التى يتقنها الأرمن ، ونقلوها إلى مصر : التصوير ، وصناعة الزنكوغراف ، وصنع البسطرمة ، وإصلاح الأحذية ..

قال :

ـ عمل أبى ثلاث سنوات فى وكالة ماتوسيان للسجاير بشارع فرنسا . لم تكن مهنته ، فاستقال منها ، وافتتح ورشة صغيرة لصناعة الجلود ..

واستعاد لهجة التفاخر :

ـ كما ترى ، فإن إنجابى هو إنجاز أبى الأول !

تحدث عن الإسكندرية الكوزوموباليتينية ، إسكندرية الخواجات . المقاهى والمخابز ومحال البقالة والدخان والسجائر والكازينوهات واللوكاندات .. كلها للأروام والأرمن والإيطاليين والإنجليز والفرنسيين ..

قلت ضاحكاً :

ـ لهذا تهتف المظاهرات : عاشت مصر حرة مستقلة ..

قال :

ـ حرة من الاحتلال العسكرى الإنجليزى ..

دندن بأغنية شعبية أسبانية ، تروى عن أهل المدينة الذين ألقوا بالمسيح فى النهر لأن السماء لم تمطر ..

قال :

ـ هذا هو الجزاء الذى لقيته الجاليات الأجنبية فى مصر ..

وأشار إلى صدره بأصابع مضمومة :

ـ نحن قدمنا للإسكندرية خدمات كثيرة ..

لاحظت تغيراً فى سحنته ، وما يشبه الغضب ..