جاءنى صوتها فى التليفون ـ بعد غيبة أيام ـ فاتراً :
ـ إن أردت ، يمكن أن نلتقى فى موعدنا .
لم تشر إلى المكان ، لأنى كنت أسبقها إلى الكورنيش الحجرى أمام مدينة الملاهى بالأزاريطة . ربما سرنا إلى السلسلة ، أو إلى قبالة تمثال الخديو إسماعيل ، أصحبها إلى مكتبة كلية الآداب . مرتان ، التقينا ـ خارج البيت ـ فى ميدان أبى العباس ، وعلى شاطئ الأنفوشى . زرت معها ـ للبحث عن مراجع ـ المركز الثقافى الأمريكى بشارع فؤاد .
تكلمت عن الموعد ، ولم تحدد المكان .
حدست أنها تقصد الموضع الذى اعتدنا اللقاء فيه .
سرنا فى اتجاه بحرى . خلفنا مرسى القوارب فى الميناء الشرقية ، والشارع المفضى إلى معهد الأحياء المائية ، وقلعة قايتباى ، ومساكن السواحل ، وكومات الحجارة والردم تتسع بها مساحة الأرض أول الأنفوشى ، وورش المراكب . تناهى أذان العصر من مسجد طاهر بك أول شارع الحجارى .
أمسكت بساعدى . ساعدتها على القفز ـ بأقدامنا الحافية ـ على الكورنيش الحجرى ـ قبالة قصر أم البحرية ذى الطابع الشرقى والطوابق الثلاثة ـ إلى داخل الشاطئ . إلى اليسار ثكنات الحرس الملكى ، وقصر رأس التين ، وإلى اليمين البيوت التى تآكلت واجهاتها بملح البحر ، وفى الأفق تعلو الجزيرة الصغيرة
مد الموج يلامس الرمال . تضوى لحظات ، ثم تعود الرمال إلى انطفائها ، بامتصاصها للماء ، وبحرارة الشمس ..
يترامى صوت ارتطام الأمواج بالصخور ، أسفل الكورنيش الحجرى ، ترافقه صيحات النورس ، وهبات الريح المندفعة من ناحية الشمال ..
جلست فوق الكورنيش . تحتضن ساقيها ، وترنو إلى الأفق . يترامى صوت تكسرات الأمواج . وثمة بقايا طحالب وأعشاب وقناديل بحرية ، واندفعت كابوريا نحو حجر داخل الرمل ..
انداحت دفقة هواء مفاجئة . طار أسفل فستانها ، فظهرت ساقاها وما فوق ركبتيها . تملكتنى رغبة أن ألمس البشرة الوردية ، الناعمة ..
لاحظت أنى أختلس النظر ، فشبكت يديها على الركبتين ، ونطق التوتر فى ملامحها ..
قلت لمجرد أن يدور حوار :
ـ لكل إنسان حلم .. وحلم هذا الصياد تركز فى السنارة التى تنتهى بها القصبة .. إنها وسيلته بالطعم الملتف حولها لاجتذاب السمك !
قالت :
ـ قرأت حكاية عن صياد طلعت شبكته بعروسة بحر ، عرضت عليه أن يطلق سراحها لقاء مساعدته فى الحصول على ما تضمه أعماق البحار من كنوز وثروات ..
قلت وأنا أغوص فى زرقة عينيها :
ـ عروستى لا تعادلها كنوز الدنيا كلها !
كنت أرى فى عينيها أسئلة كثيرة ، وإن لم تجرؤ على مصارحتى . أدركت أنها تخفى وراء الابتسامة التى تملأ الوجه ما تعانيه . راعيت ميلها إلى الصمت . لم أشأ أن أسألها فى ما قد لا تجيب عنه ..
ـ أين كنت ؟
ـ لم أترك حجرتى ..
ـ لماذا ؟
عانيت ارتباكاً ، فتنقلت نظرتى بين الرضوض والكدمات الزرقاء فى ساقها ، والقوارب التى تصيد المياس فى خليج الأنفوشى . رفعت الجونلة ـ بعفوية أربكتنى ـ إلى ما فوق الركبتين ، وأشارت بيدها :
ـ زميل فى الدراسات العليا ظن نفسه كازانوفا ..
قالت إنها لم تبح لأحد بذلك السر . اختصتنى بما أطالت كتمه فى نفسها . حتى نظرات الخواجة أندريا القلقة ، وأسئلة الأم ، اكتفت أمامها بالصمت . ما حدث أكبر من أن تحاول استعادته : حصاره لها فى الشقة المغلقة . نظرته الشهوانية ، المتوعدة ..
قال من بين أسنانه :
ـ لماذا أنت هنا ؟
ـ لنذاكر معاً ..
ـ فقط ؟
هزت رأسها :
ـ فقط ..
ـ هل هذا كل ما تملكه فتاة أرمنية ..
أدركت ما يفكر فيه :
ـ أولاً .. أنا مصرية ..
ورمته بنظرة ساخطة :
ـ ثانياً .. هل الأرمن يختلفون عن بقية البشر ؟!
التف ساعداها ـ بتلقائية ـ حول وجهها . تتقى الصفعات التى فاجأها بها ، صفعات قاسية ، رافقتها عبارات قاسية ، وشتائم . لف شعرها حول قبضته . اجتذبها . طرحها على الأرض . ظل يوجه إليها اللكمات والصفعات ، والشتائم ..
ـ تملكنى شعور أنه يريد قتلى !.. يضرب ليقتل لا ليؤذى !
ـ لماذا ؟
وهى تهز راحة يدها :
ـ لا أعرف .. لا أعرف ..
وأنا أغالب التردد :
ـ آسف .. لكن هل كان يتوقع شيئاً ؟..
شوحت بيدها :
ـ لا أعرف ذلك النوع من التوقعات !
وغامت فى عينيها سحابة دامعة :
ـ أستعيد الموقف فلا أجد ما يبرر فعلته إلا أنه مجنون ..
سكت قليلاً ، ثم قلت :
ـ هل رويت ما حدث للأسرة ؟
ـ النتائج السلبية سأتحملها بمفردى !
داخلنى شعور أنى أراها للمرة الأولى . ليست هى الباحثة التى ألتقى بها فى عيادة الدكتور جارو ، ولا الصديقة التى تصحبنى إلى بيت أسرتها ، ومكتبة كلية الآداب ، وكورنيش الشاطئ ، بل ولا حتى الفتاة الجميلة بشعرها الأصفر ، وعينيها الزرقاوين ، وأنفها الصغير . هذه فتاة أخرى . تهبنى ثقتها ، تحدثنى عن معاناتها ، وما كتمت روايته .
***
طارت بى الدنيا ـ رغم تأثرى ـ لأنها باحت لى بالسر الذى تحتفظ به لنفسها . بما حرصت ألا ترويه لأحد ..
لماذا اختارتنى من بين كل الذين تعرفهم لتحكى لى أسرارها ؟
أثق أنها تعرف كثيرين . تتناثر فى كلماتها أسماء كثيرة ، وأحداث شارك فى صنعها من لا أذكرهم ، لكنهم ـ بالتأكيد ـ يملأون ذاكرتها ..
هل هى صادقة فى تحذيرها لى ؟ . قالت : إنى إذا أعدت رواية الأسرار التى ائتمنتنى عليها ، فستكون الأسرار قد جاوزت اثنين ، فعرفها ثالث ؟ .. وانغماسها فى الأحاديث الهامسة مع العجوز ، ألا يسرق ما تتصور أنها كتمت صدرها عليه ؟
أيقنت ـ فى لحظة لا أذكرها ـ أنى لم أعد أعرف أحداً ، ولا شيئاً ، فى الدنيا سواها . ألتقى بالآخرين ، أحادثهم ، أسير فى الشوارع ، أقف على شاطئ البحر ، أتلقى الرسائل من القرية ، أحيا كما يحيا الناس . لكن صورتها وحدها هى التى تشغلنى .
ما نتبادله فى أحاديثنا يشى بالصداقة ، لكنه لا يتطلع إلى تسمية ، أو تسميات ، أخرى ..
الحب !..
شعرت أنى أحبها . لا يشغلنى فى هذا العالم سوى أن تكون لى . لا تشغلنى القراءة ولا الكتابة ولا الآراء المؤيدة أو المعارضة ، ولا فرص النشر ، ولا عملى عند فيصل مصيلحى ، ولا أى شئ . أن أكون محباً لها ، محبوباً منها ، هو ما يهمنى . تهاوى جدار السر بينى وبينها ، أعطى كل منا نفسه للآخر بالفضفضة ، ورواية ما كان يعتبره شأنه الشخصى .
أنا أحبها .
أتصور أنى أرى الحب فى عينيها . أثق أنها تبادلنى الحب ، وإن لم تهبنى ما أحيا على توقعه : كلمة ، أو إيماءة ، أو نظرة ذات معنى ..
هل أحبتنى ؟!..
لم يغب شعورى ، ولا شحب ، ولا تخاذل ، بأنها تضمر لى ما أسميه الحب ، ما أضعه فى إطاره ..
خلت دنياى إلا منها : شعرها الأصفر ، المتموج ، على رأسها وكتفيها ، وعيناها الصافيتا الزرقة ، وأنفها الصغير ، وشفتاها الرقيقتان كورقتى وردة ، وقوامها الذى يستدعى معنى العافية . أصحو ، وأنام ، وأقرأ ، وأكتب ، وأسير ، وأجلس ، وأسأل ، وأجيب ، وأناقش ، وأشاهد . لا تبرح ذهنى . ربما ناقشتها ـ بينى وبين نفسى ـ فيما أكتمه فى داخلى ، لا أقدر أن أواجهها به .
كانت تدير الفونوغراف فى حجرتها على أسطوانات لباخ أو موزار أو بيتهوفن . ترنو ناحيتى . تتأمل انعكاس الموسيقا فى ملامحى . أحببت الموسيقا الكلاسيكية لأنى أحب نورا . تنقلنى إلى أجواء تختلط فيها عيناها ، وابتسامتها ، وخصلة الشعر الملتفة حول إصبعها ، والهارمونى المنساب فى عالم بلا زمان ولا مكان ..
فاجأتنى بالقول ـ ذات مساء ـ ونحن نفترق فى محطة الرمل ـ :
ـ لا إله إلا الله .
قلت بعفوية :
ـ محمد رسول الله .
تنبهت ـ فى اللحظة التالية ـ إلى ما قالت ..
اعتدت ـ فيما بعد ـ قولها : بسم الله الرحمن الرحيم .. اسم الله عليك .. ودين النبى .. وحياة أبو العباس ..
تمنيت أن نتبادل ـ ذات يوم ـ كلام المحبين . يصعب أن أحدسه معها . ماذا أقول ؟ ماذا تقول ؟. لكنه لابد أن يختلف عن كلام المظاهرات ، وذكريات الدكتور جارو ، وقضايا السياسة ، ومراجع رسالة الماجستير ..
عدنا إلى السير فى ميدان المنشية ..
بدا الميدان صامتاً ، ساكناً ، يختلف عن الصورة التى كان عليها يوم الصدام بين المتظاهرين وقوات البوليس . لم يعد إلا قطع حجارة متناثرة ، وفروع أشجار ، وبقع دماء داكنة ..
صحبتنى إلى مكتب البريد الرئيسى بالمنشية . وضعت حوالة الجنيهات الخمسة فى داخل المظروف . كتبت عليه " السيدة الفاضلة والدة صلاح بكر ـ الصوامعة ـ طهطا . أرفقت بالحوالة كلمات ، لمّحت فيها إلى أن العمل قد يأخذ وقتى فى الفترة القادمة .
كيف تستقبل أمى زواجى من نورا ، لو أن أميرتى وافقت ؟
حياتها تختلف عن حياتنا . إنها جميلة بارك الله لك فيها . هى ليست من دينك . هل تعرف أهلها ؟ هل تقبل العيش بعيداً عن الإسكندرية ؟.
حتى لو عارضت أمى ، فإنها ـ هذا هو ما اعتدته ـ ستوافق ، وتبارك ، وتحب نورا مثلما أحببتها ..