فصل ـ 11 ـ

18 0 00

 بدت العيادة ممتلئة بالمترددين . على غير العادة . هو الوقت الذى خصصه الدكتور جارو لاستقبال نورا ، ولاستقبالى ..

لمح وقفتى المترددة :

ـ ادخل ..

وأشار إلى صناديق كرتونية صغيرة فوق المكتب :

ـ مستوصف سوق السمك القديم عاجز عن استيعاب طالبى التطعيم من الكوليرا ..

ونفث تنهيدة :

ـ أحاول القيام بدور ..

ونقر بإصبعه على جبهته كالمتنبه :

ـ خذ المصل أنت أيضاً ..

كنت أجلس فى لقاءات تسجيل ذكرياته لنورا فى فترات متباعدة . مجرد الحرص أن تظل صلتى بالدكتور جارو ، وصداقتى له . ألتقى بنورا بعيداً عن العيادة . فى بيتها ، أو فى أماكن نختارها ، أو تختارها المصادفة . صار العالم كله ملكاً لنا ..

اعتدت من العجوز أحاديث المرارة . يقتحمه الشعور بأنه وحيد . تغيب البواعث ، وإن بدت الوحدة قاسية . المرء يولد ، يتعلم ، يعمل ، يأكل ، يشرب ، يتزوج ، ينجب ، يحب ، يكره ، يشيخ ، يمرض ، يموت ..

لماذا يولد أصلاً ؟ لماذا لا يموت من البداية ؟

 صارحنى أنه ظل كارهاً لمصر أعواماً طويلة ، حتى ألف الأمكنة والبشر ، وإن بقيت صورة واحدة ، ثابتة ، لا تختلط بغيرها من الصور . يتجه ـ بالحنين ـ إلى مدن وأماكن فى أرمينية . يذكر الأسماء . لا أعرف موضعها على وجه التحديد . لا أعرف حتى كيف أنطقها جيداً . أكتفى بالخيال فى تصور المدن والبنايات والميادين والشوارع والجبال ، والناس الذين افترق عنهم بتشريد المنافى ..

ـ كان الموقع هو مشكلة أرمينية مثلما كان مشكلة مصر . أرمينية ملتقى الطرق التجارية والعسكرية بين أوروبا وآسيا .. ومصر ملتقى الطرق بين أوروبا وإفريقيا وآسيا .. لذلك تعددت الغزوات للبلدين منذ التاريخ القديم ..

ولاحظت ارتجافاً فى شفته السفلى :

ـ الأحلام بعيداً عن الوطن مجرد حالة مرضية ..

وعكس وجهه ما يعتمل فى نفسه من انفعالات :

ـ كنت أعد نفسى للعودة إلى أرمينية لولا الوباء الذى فاجأ الجميع ..

حدست أن الرجل يعانى : هل يستعيد بالتطعيمات ما رواه عن دوره فى إنقاذ جرحى النفى من بلاده ؟

 بدا الحدس يقيناً ، لما التفت ناحيتى فى وقفته أمام الطابور :

ـ منذ قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين لم يعد من السهل توقع ما سيحدث .

اكتفيت بهزة من رأسى ..

قال :

ـ منذ ما يقرب من ربع قرن أنهت الحكومة العثمانية قضية الأرمن رسمياً . أعلنت أنه لم يعد للأرمن وجود فى دولة الخلافة !

وهز سبابته :

ـ تحدث قرار تقسيم فلسطين عن العرب واليهود . أما معاهدة لوزان فى 1923 فقد خلت من كلمتى أرمينية والأرمن ..

وداخل صوته تهدج :

ـ لم يعد للأرمن ادعاء مجرد الحق فى الحياة ..

وتبدّلت نبرة صوته :

ـ أخشى أن ذلك ما يعدونه للفلسطينيين !