فصل ـ 3 ـ

19 0 00

 زيارات المصادفة إلى عيادة الدكتور فارتان لقاءات أحرص على مواعيدها ، وأنتظرها . لا أدرى ـ على وجه التحديد ـ ماذا يجذبنى للقائها ؟

 لم أستطع أن أبعد عن مخيلتى ابتسامتها الطفولية ، وعينيها الصافيتى الزرقة ، وشفتيها الرقيقتين ، وخصلة الشعر التى تلفها حول إصبعها وهى تتحدث .

قلت لفيصل مصيلحى :

ـ التقيت بفتاة أشعر أنها ستدخل حياتى ..

ـ لماذا ؟

 ـ مجرد إحساس قلت من خلاله لنفسى إن تعرفى إلى هذه الفتاة لن يكون عابراً ..

ـ لم أعرف أنك ممن يبحثون عن صداقة البنات ..

ـ ولا أنا أعرف .

ورفعت كتفىّ :

ـ فتاة جميلة .. استلطفتها .

ـ أنا لا أصدق حكاية الحب من أول نظرة .

ـ لم أقل إنى أحببتها . قلت إنى شعرت بأنها ستدخل حياتى .

ـ بمعنى ؟

 لم يشغلنى إن كان ما شعرت به هو الحب من أول نظرة ـ كما قال فيصل بلهجته الساخرة ـ . لم يشغلنى حتى الاندفاع إلى فتاة لم أعرفها قبل لقائنا بعيادة الدكتور جارو ، ولا عرفت سوى ما قالته عن اسمها وعملها . هى لم تجتذبنى لجمالها ـ لا أنكره ـ فقط ، وإنما لأشياء أخرى يصعب أن أحددها .

أعدت القول فى هيئة المدافع :

ـ أتمنى أن تدخل حياتى . صداقة .. معرفة .. الحب ليس شرطاً .

وهو يبدى الحيرة :

ـ كلام لا أفهمه !

ثم وشى صوته بلهجة وعظية :

ـ لا تفعل ما يغضب الله !

كانت لى علاقات ، انتهت أو استمرت . إخلاص عبد الفتاح زميلتى فى قسم اللغة العربية . واربت الباب ، فدخلت . جارة الشقة المقابلة ، أومأت بابتسامتها الواسعة ، ثم بإشارتها . فطنت ـ عقب عودتى من لقائها بأول شاطئ الأنفوشى ، أنها ليست فتاتى . ترددت مرة وحيدة على كوم بكير . تقيأت فى مدخل الغرفة المبهرجة ، الكابية ، وتركت الحى بلا عودة ..

بدت لى نورا شيئاً مختلفاً ..

أدركت أنها ليست مجرد هبة هواء منعشة ، تغيب فى اللحظة التالية . لم أكن التقيت بها من قبل ، لكننى توقعت ، تمنيت ، أن ألتقى بها ، وأن تنشأ بيننا صلة لا تنتهى . كنت أتمنى أن أجد الفرصة لنشر ما أقتنع به فى الصحف ، وأجد الفتاة التى رسمها تصورى . حياتى حلم أُفُقه اللحظة التى سنلتقى فيها . لم تكن هى الملامح نفسها التى رسمها الخيال ، ولا حدست إن كانت مصرية ، أو تنتمى إلى كوزموباليتينية المدينة . بدت تجسيداً لهلامية الحلم دون ملامح محددة . ملأت حضورنا ، حضورى . لم تعد السياسة عالمى الوحيد . عالمى الجديد ، الجميل ، يتألق بالسحر والأحلام وقطر الندى ..

واجهنى فيصل بنظرة متسائلة :

ـ تعرفت إليها ؟

 ـ ليس تماماً . قابلتها فى عيادة الدكتور جارو . لم أتوقع زيارتها ، ولا عرفت إلا أنها تعد رسالة جامعية عن مذابح الأرمن فى أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها ..

أطلق من أنفه ضحكة قصيرة :

ـ حب من أول نظرة ..

ـ لا أستطيع أن أسمى ما أشعر به حباً ..

وحاولت مداراة انفعالى فى لهجة هادئة :

ـ لم أتبادل معها كلمة واحدة ..

ـ إذن فهو حب طيارى ؟

 ـ استأذنت فى الانصراف .. لكن الدكتور استبقانى ..

وانعكس تأثرى فى تهدج صوتى :

ـ وهى تلقى بالتحية فى انصرافها ، أدركت أنى سأنتظرها كل يوم فى الموعد الذى حدده لها الدكتور جارو ..

ـ إن لم يكن هذا هو الحب .. فماذا يكون ؟

 ـ سمه اهتماماً أو إعجاباً .. هى أرمنية ..

قاطعنى :

ـ أرمنية ؟!

تجاهلت المعنى الذى يقصده :

ـ مصرية من أبوين أرمنيين ..

لم تعد تشغلنى ذكريات الدكتور جارو ، بقدر ما يشغلنى اقتناص الفرصة لألفت نظر نورا . ترنو بنظراتها ناحيتى . كنت أفتعل أية مناسبة للتوجه بالكلام إليها . أبدى ملاحظة ، أو أوجه سؤالاً . مجرد أن أتحدث إليها ، أجذب اهتمامها . لم أفكر فى مدى العلاقة التى يمكن أن تنشأ بينى وبينها . لم أسأل نفسى : ماذا بعد ؟ ولا دار ببالى إن كانت ستقوم بينى وبينها علاقة من أى نوع . مجرد أن ألفت انتباهها . تجيب ، أو تعيد السؤال . ترد ، وتناقشنى . توافق ، وتخالف ، وتبدى الملاحظات . لكنها تظل فى انشغالها بالحديث مع الدكتور جارو . أتوقع ، أتمنى ، أن تلحظ نظرات الود المتطلعة إلى عينيها . يعرونى إحساس بطل الخرافة الذى غمر بالماء حتى ذقنه ، بينما تدلت أغصان الفاكهة فوق رأسه . كلما حاول أن يشرب ، أو يلتقط الفاكهة ، لحقه الإخفاق ، فظل بلا طعام ولا شراب ..

 ***

أخرجت جهاز تسجيل من حقيبتها . وضعته على الطاولة الصغيرة أمام المكتب ، تفصل بين مقعدين جلس على أحدهما الدكتور جارو ، وجلست الفتاة فى مواجهته . كنت على المقعد المواجه لباب الصالة ..

ناوشنى الحرج . لم يكن يتحدث عن المترددين على العيادة ، لا مجرد إشارة إلى حالة تولى علاج صاحبها ..

ـ هل أنتظر فى الصالة ؟

 وهو يربت ركبتى :

ـ يهمنى أن تعرف ما حدث ..

واتجه إليها بنظرة مثقلة بالحزن :

ـ ما جرى أستعيده كومضات : الأسواق . الميادين . أبراج الكنائس . زخات الرصاص والقذائف . الصراخ والقلق والخوف . الجرحى . القتلى . الصحراء . المنافى . الخيام . قمم الجبال . القمل وحمى التيفوس . النظرات الرافضة والمشفقة والتى تقطر حقداً . قطاع الطرق . مسلحو العشائر . طفل فى حوالى العاشرة يتلفت فى حيرة وهو يبكى . امرأة تلقى طفلها على الأرض وهى تصرخ ، وتجرى . طوابير متلاصقة ، ممزقة الثياب ، حافية الأقدام ، يدفعها الجنود الأتراك . ساق مبتورة غطاها السواد . جثث تفحمت من حرارة الشمس . عظام متيبسة تتخلل الرماد ، تشى بالاحتراق الذى التهم أصحابها . حفر موت ومقابر جماعية .

تململت نورا فى جلستها :

ـ هل نبدأ من البداية ؟

 قال :

ـ حتى الآن لا أصدق أن ما حدث قد حدث بالفعل . لا أنسى الأثاث والملابس والأمتعة وكل ما فى البيوت والدكاكين والمخازن ، وضعت فى ساحات مسورة ، وعرضت للبيع . اقتصر البيع على الأتراك والأكراد والعرب . لم يعد الأرمن يملكون أى شئ . حتى الجوع والعطش لا يعرفون متى ولا كيف ينتهى . حتى أسماء الأماكن الأرمنية ، القليلة ، محتها حكومة الأتراك . استبدلت بها أسماء تركية لا تأذن حتى للأرمن بنطقها ..

واتجه الرجل ناحيتى بالنظرة الحزينة :

ـ قبل أن تولد مضى العثمانيون عن العالم العربى ، بعد احتلال أربعمائة سنة ..

أردف وهو يضغط على يدى :

ـ أتصور أنك قرأت عن جرائم العثمانيين .. جرائم الإبادة فى أرمينية أشد بشاعة . لم يكن ما حدث مجرد إبادة شعب ، قتل وتشريد مليون ونصف مليون مواطن من أبناء أرمينية ، نصفهم من الأطفال . المجلدات والكتب العلمية تمزقت إلى أوراق ، غلف فيها الجبن والتمر وبذور الثمر . المخطوطات والمنمنمات الأثرية والرموز المعمارية ، وكل ما يتصل بالحضارة الأرمنية ، بداية من ثلاثة آلاف سنة .. ذلك كله تعرض للدمار والتشويه . حتى الصلبان نزعت من جدران الكنائس ، وسلب ما بها من أثاث وأيقونات ، وحولت إلى مخازن .

واغتصب ضحكة باهتة :

ـ حاولوا حل قضية الأرمن بإبادتهم !..

ثم علا صوته كالمتذكر :

ـ لن تعود أرمينية إلى أهلها ما لم يحرصوا على لغتهم وثقافتهم وروحهم ..

تحدث عن انشغاله بألا يذوب الأرمن فى المجتمعات التى يعيشون فيها . لا يواجهون الذوبان والضياع . انصهر الآلاف من الأرمن فى مجتمعات لا يريدون الإقامة فيها ، وترفضهم . لم يكونوا مخيرين فى انصهارهم داخل بنى اجتماعية يختلفون عنها تماماً .

عاودت نورا تحركها المتململ :

ـ هل نبدأ من البداية ؟

 ألمح فى عينيه أنه قد انعزل عن كل ما حوله ، وعن العالم ، وأنه ينظر إلى ما يراه وحده . ربما ما استمعت إليه من صور الحياة فى بلاده : البشر والأسواق والكنائس والجبال والأودية والأنهار والقمع والاضطهاد والترحيلات الجبرية والمذابح ..

سكت لحظة . فطنت ـ لما بدأ فى التحدث ـ إلى أنه يحاول السيطرة على انفعاله :

ـ ما بين عامى 1894 ـ 1896 تواصلت مذابح الأكراد والجنود الباشبوزق ـ تسمية تركية ـ بأمر من السلطان عبد الحميد ، ضد شعب الأرمن . ظلت المذابح عاماً كاملاً ، مات خلالها 300 ألف شخص من القتل والجوع والعطش والإعياء والأمراض والبرد ، وهاجر أكثر من مائة ألف إلى البلاد العربية وروسيا والبلقان وأوروبا وأمريكا . لم يكن أمام الأرمن إلا أن يحملوا السلاح . تكونت الجماعات السرية ، وتعددت عمليات الاغتيال وتدمير المنشئات التركية ..

ثم اتخذ قرار إبادة الأرمن فى الدولة العثمانية ـ سراً ـ فى فبراير 1915 . لجأ العثمانيون إلى الإبادة العرقية ليحققوا القومية الطورانية ، قومية الأتراك . جعلوا هدفهم " قومية واحدة وجنس واحد " . كان التخلص من الأرمن ضرورة ـ فى تقديرهم ـ لقيام الدولة الطورانية . لن تجد أوروبا ما تتحدث عنه بعد أن تزال عقبة الأرمن بين الأتراك العثمانيين والشعوب التركية فيما وراء القوقاز وبحر قزوين .

تلقى الولاة والضباط الأتراك الأوامر شفاهة أو بالبرق . أوكلت المهمة إلى رجال الدرك والعصابات السرية ، حتى يبدو الجيش بعيداً . عادت المذابح فى إبريل 1915 . وامتدت حتى عام 1918 ، وشملت كل أرجاء الإمبراطورية العثمانية .

بدأت المذابح بالمثقفين فى مساء 24 إبريل 1915 . اعتقل الأتراك أكثر من مائتى أرمنى ما بين أدباء وشعراء وصحفيين ومدرسين ومحامين وأعضاء فى البرلمان . اقتيدوا ـ فى الليل ـ بعيداً عن بيوتهم ، وأعدموا ، وأعدم ستمائة آخرون فى الأشهر التالية ..

أخليت بيوت الأرمن ، وصودر الأثاث ، وبيع النساء والأطفال فى المزاد العلنى ، أو وهبوا إلى العائلات التركية وعصابات الأكراد . أزيلت معالم الآثار التاريخية التى تدل على قومية الأرمن . على أنه كان فى تلك البلاد من يسمون بالأرمن ..

دفعنا إلى الرحيل ، النفى الإجبارى والتشريد ..

كان الرحيل سيراً على الأقدام . وكنا ـ أحياناً ـ نجر العربات . لم يكن معنا إلا القليل مما سمح لنا بحمله . امتلأت الأعين بالخوف والدمع والموت ..

بدأ الضياع ، الذوبان ، التلاشى ، منذ الأيام الأولى لعمليات النفى . القتل والاغتصاب وهجمات العصابات ومواجهة الصحراء والشمس والجوع والعطش . أكل النازحون الكلأ والميتة والجلود المسلوقة . أقدموا ـ أحياناً على أكل لحم البشر . استباح الجنود الأتراك أعراض النساء ، ودمروا ، وقتلوا . من تروق فى عين الجنود يقتادونها إلى ما وراء أكمات الحجارة والصخور والتلال الصغيرة . يغيبون بها ، دقائق تطول أو تقصر . ثم يترامى صوت إطلاق الرصاص . نعرف أنها قتلت بعد أن اعتدى الجنود عليها . وكانوا يربطون الأم وأطفالها بحبل ، ويلقون بهم من قمة الجبل ، ترتطم بالأرض قطعاً من اللحم المفتت . ربما ألقوا بالبعض أحياء فى النهر . من يحاول الطفو تلحق رأسه رصاصة ، فيغوص فى الماء . الجثة التى تطفو على السطح ، أو تقذفها الأمواج إلى الشاطئ ، تتخطفها الكلاب أو النسور . حصل الجنود على رخصة بفعل كل ما يريدون .

أبيد حوالى نصف السكان الأرمن ، وهرب الباقون . صارت المذابح الأرمنية ملمحاً فى سياسة العثمانيين . تكررت ، فلم تعد تثير الغضب ، ولا الاستياء ، ولا حتى مجرد المناقشة . لم يبق من مليونى أرمنى ـ داخل الإمبراطورية العثمانية ـ سوى مائة وعشرين ألفاً فقط . فى أول يناير 1917 ، أعلنت الحكومة العثمانية نهاية القضية الأرمنية ، وأنه لم يعد للأرمن وجود فى دولة الخلافة ..

قالت نورا وهى تدير خصلة الشعر المتهدلة على كتفها ..

ـ أحتاج إلى معلومات كثيرة ..

رفع رأسه ببطء ، واتجه إليها بنظرة مثقلة بالحزن :

ـ ضمت المعسكرات 130 ألف أرمنى . امتدت على طول الطرق ، وعلى ضفاف نهر الفرات حول المدن الصغيرة : مسكنة والرقة والزيارة والسبخة ودير الزور . أكثر من ألف كيلو متراً قطعها الفارون سيراً على الأقدام . ابتلعت الصحراء الآلاف . من لاذوا بالكهوف ، حاصرهم الجنود بالبترول ، وأشعلوا النيران . تضاءل الآلاف إلى مئات ، والمئات إلى عشرات . مجرد أشباح كائنات بشرية ، تبحث عن جرعة ماء ، أو كسرة خبز . ما يحفظ عليها الحياة . بدا الوجود بلا معنى ، وأننا نعانى موتاً بطيئاً ، مؤكداً .

لم نعد نملك أى شئ . لم يعد بحوزتنا أى شئ . حتى الثياب على الأجساد ، انتزعوا ما راق فى أعينهم منها . أجريت امتحاناً فى حلب أثبت من خلاله أنى طبيب . أجرينا الكثير من عمليات البتر لأيدى وأقدام وسيقان ، بلا معدات طبية ولا مسكنات ولا أدوية

 غاية ما كنا نتمناه هو النجاة بأرواحنا . الفرار من الرصاص ، والدفن أحياء ، والجوع ، والموت عطشاً . يظهر عساكر الأتراك . يطلقون رصاص بنادقهم ، فينتهى كل شئ . جثث الموتى الملقاة على امتداد الطرق ، حتى الخلوات والطرق الجانبية ، تناثرت فيها بقايا الجثث ، وحومت الكواسر فوقها .

لم أكن أعانى الخوف على حياتى فقط . كنت أعانى التنقل ـ بالخوف ـ بين الفارين . أداوى المرضى ، أسعف الجرحى ، أوصى بدفن من يأخذهم الموت . اختلطت مشاعرى ، وتشابكت . لم أعد أفرق بين ما فى داخلى ، وما ينعكس من معاناة الفارين ..

ضرب المكتب أمامه بقبضة يده :

ـ الغريب أن كل تلك المذابح هى الجائزة لوقوف الأرمن إلى جانب تركيا فى حرب البلقان !

قالت فى لهجة مشفقة :

ـ سأعتبر ما فى التسجيل خطوطاً عريضة ، نتناول تفصيلاتها فى الجلسات التالية .

وضعت الكاسيت فى حقيبتها ، ونهضت . حملت الحقيبة على كتفها ، وهمست : سلام . ومضت ناحية باب الشقة ..