فصل ـ 14 ـ

16 0 00

 ألقت نورا بكل ذاتها فى انشغالها بما يجرى . تسأل ، وتناقش ، وتوافق ، وتعترض ، وتلصق الشعارات ، وتردد الهتافات ، وتوزع المنشورات ، وتذوب وسط الجموع المتلاصقة ، الهاتفة . لم تفاجئنى تصرفاتها . أرمينية هى القضية التى اختارتها لرسالة الماجستير ، الاحتلال والتهجير والقتل والتدمير .

يقتحمنى الخوف من أن تجرفها أمواج المتظاهرين . تقع تحت الأقدام فلا تملك الوقوف . تتقلص يدى على موفقها ، وأجتذبها ناحيتى .

بدت كأنها تخوض معركتها الشخصية ، لا تشغلها النتائج ، ولا تتطلع لأفق الخطر . حتى المصادمات بين العساكر والمتظاهرين ، كانت تجتذبها ، تثيرها ، وتتابعها . تدخل معى فى مناقشات ، تبدأ ولا تنتهى . أستعيد أسئلتها وآراءها فيما لم أتصور أنها تحدثت فيه . تدرك ـ لابد ـ أن الدكتور جارو والخواجة أندريا يرفضان اقترابها من العمل السياسى . تتلفت ـ بعفوية ـ كمن تتأكد أنه ليس بيننا ثالث . تسأل ، أو تبدى الملاحظة . تتشابك الخيوط ، وتختلط ، وإن لم تجاوز مساحة الأحداث التى نعيشها . تفاجئنى بالمعلومة أو الفكرة التى ربما لم أفطن إليها . أحداث من المشهد الثقافى والسياسى . أمر الملك بدخول الحرب بحثاً عن الشعبية ، لم يخطر فى باله أنه سيخسر الحرب والشعبية . متطوعون من أوروبا الشرقية يصلون بطائراتهم للقتال إلى جانب اليهود . كان يجب على الدول العربية أن تساعد الفلسطينيين على خوض معركتهم ، ولا تحارب بالنيابة عنهم . تقتصر مشاركتها على المتطوعين . تظل الحرب فلسطينية يهودية ، وليست عربية يهودية ، فلا يكسب اليهود عطفاً لا يستحقونه . إذا لم تكن تعرف ، فإن العالم كله مع دولة اليهود فى فلسطين ، من أقنعته السياسة ومن أقنعته الرشوة . أنت تكتفى بقراءة الصحيفة العربية ، وأنا أقرأ الصحف الأجنبية أيضاً ..

فاجأتنى بالقول :

ـ مشكلة العرب أنهم يتعاملون مع اليهود باعتبارهم عصابات !

ـ هم كذلك بالفعل !

ـ لماذا إذن قبلوا الهدنة ؟

 ـ الأمم المتحدة هى التى قررت الهدنة .

قاطعتنى :

ـ وهى التى أعلنت التقسيم ، وهى التى احتشدت فيها كل الدول الكبرى لإعطاء فلسطين لليهود

 ـ إرادة المجتمع الدولى يجب أن تحترم !

ـ وخرق اليهود للهدنة .. ما معناه ؟!

حدجتنى بنظرة تتأمل الريبة التى لابد أنها نطقت فى وجهى :

ـ أذكرك بأن العرب ضيعوا الأندلس بإهمالهم آخر قلاع الجنوب الأسبانى ..

خلت حياتنا إلا من مفردات المظاهرة ، والإضراب ، والاعتصام ، وتوقف المواصلات ، والمنشورات ، والعمال ، والطلبة ، والصهيونية ، وفلسطين ، وإيقاف الدراسة . إذا كانت الحكومات المصرية قد أخفقت فى حل قضية مصر أمام مجلس الأمن ، فكيف نتوقع أن تحل قضية فلسطين ؟ . ما حدث فى دير ياسين يدل على أن اليهود يريدون طرد العرب من فلسطين ، وليس مشاركتهم الحياة فيها . انشغل ملوك العرب بالحصول على قطع من تورتة فلسطين ، بينما حصل اليهود على تأييد الشرق والغرب . هل هى أسلحة فاسدة ، أم قيادات فاسدة ؟ من يدفع ثمن الخيانة ؟

 ألفنا المظاهرات ، وهجمات عساكر البوليس ، وضربات الهراوات ، ودبشكات البنادق ، وخراطيم المياه ، والقنابل المسيلة للدموع ، وإطلاق الرصاص فى الهواء . شاركنا المتظاهرين فى التقاط قطع الحجارة من الخرابات والبيوت المتهدمة والساحات ، وفى قطع الأشجار ، وانتزاع أعمدة النور ، وإقامة المتاريس وسط الشوارع ، وفى تقاطعاتها .

استقرت فى داخلى أشواق إلى أجوبة عن أسئلة ، تشغلنى دون أن تكتمل مفرداتها ..

 ***

فاجأنى ، أذهلنى ، ما فعلته نورا ..

قفزت إلى مقدمة سيارة واقفة إلى جانب الطريق . بدت بالتايير الكحلى المنسدل إلى ما فوق قدميها ، أعلى من كل الرءوس المتلاصقة . هزت قبضتها ، وهتفت بآخر صوتها : الاستقلال التام أو الموت الزؤام ..

كأنه مجموعة أصوات ، تختلف عما اعتدته فى صوتها ، وإن تآلفت الأصوات فى هارمونية اجتذبت صمت المتظاهرين . أعادت رفع قبضتها ، وخفضها . هزتها فى الهواء ..

ردد المتظاهرون الهتاف : الاستقلال التام أو الموت الزؤام ..

أخذ الهتاف شكل الإيقاع المنتظم . تسارع . رددت البنايات المحيطة بالميدان أصداء الهتاف ..

أبطأت الخطوات ، توقفت تماماً ، لما ظهر عساكر البوليس يسدون الشوارع الرئيسية المتفرعة من ميدان محمد على وميدان المنشية . ثلاثة صفوف متراصة ، يحملون العصى والمصدات الزجاجية . حول طريق السيارات إلى الكورنيش والشوارع المتفرعة منه . سدت كل المنافذ . بدت العودة إلى بحرى مستحيلة ..

اختلطت قطع الحجارة والهتافات ، والعصى والهراوات وكعوب البنادق والدروع والخوذات ودخان القنابل المسيلة للدموع ..

تفرقت المظاهرة إلى مظاهرات صغيرة . لاذت بالشوارع الصغيرة ، الجانبية . تبادلنا نظرات الحيرة . مددت يدى ـ بتلقائية ـ فأمسكت بذراعها , وسبقتها إلى شارع جانبى ..

سرنا صامتين ..

ملنا إلى انحناءات الشوارع الجانبية ، لا نقصد شارعاً ، ولا نتوقف لتبين ما إذا كنا نعرف اتجاهنا . تصخب فى داخلى ـ حدست أن هذا هو ما كانت تعانيه ـ ومضات المظاهرة وهتاف نورا وضربات العساكر والدماء والصراخ . هدأت خطواتنا ـ بالطمأنينة ـ والكورنيش يطالعنا أمام قهوة المطرى ..

دخل ـ دون تعمد ـ عالمى الذى اقتصر ـ منذ تركت عيسى أبو الغيط ـ على دراسات القضية المصرية ، وقضايا وادى النيل ، والقضية الفلسطينية . ثم الخروج فى مظاهرات ، وعقد المؤتمرات ، وحبى لنورا الذى يشبه سمكة يرفض الصياد جذبها !

ارتبكت للخاطر الذى راودنى بأن أضمها إلى صدرى . أقبل شعرها وجبينها وخديها وشفتيها . زاد فى ارتباكى مشيتها الصامتة ، ونظرة ـ غير متأملة ـ تتجه بها إلى الأفق . وكان قوس قزح يتوسط الميناء الشرقية .

قالت :

ـ لم أتصور أنى سأواجه هذا الموقف ..

وأنا أحدق فى وجهها الشاحب :

ـ هل أصبت ؟

 يبدو أن العسكرى أشفق علىّ ، فوجه ضربته إلى الشاب بجانبى ..

ـ من ؟

 ـ لا أعرفه .. شاب من المتظاهرين !

ـ مشاركة البنات فى المظاهرات قليلة .. لكنك الأولى فى قيادة المتظاهرين ..

وهى تستعيد ابتسامتها :

ـ لا أدرى كيف جرى ما حدث .. الانفعال وحده دفعنى إلى ما فعلت !

أردفت فى عفوية :

ـ الانتماء جميل !

 ***

قال لى فيصل مصيلحى :

ـ أنت تسير فى زقاق مسدود ..

ـ لماذا ؟

 ـ علاقتك بهذه الفتاة لها نهاية واحدة ، هى الفراق ..

رفع كتفيه فى نفاد صبر :

ـ ما معنى أن تحب فتاة لا أمل لك فى الزواج منها ؟

 ـ ليس عند أى منا موانع طبية . يمكن أن نتزوج ..

ـ توجد موانع شرعية . إنها من ديانة مختلفة ..

ـ ديننا لا يمنع الزواج من الكتابية ..

ـ وأهلها .. هل يوافقون ؟

 ـ ترحيبهم بعلاقتنا يؤكد موافقتهم ..

ـ رحبوا بالصداقة لا بالزواج ..

ـ الخواجة أندريا متعصب للأرمن ، لكنه متسامح فى الدين ..

قال فى نبرة حاسمة :

ـ قراءة قصص الحب فى الروايات شىء ، ومحاولة تقمص شخصيات تلك القصص شىء آخر