ألقت نورا بكل ذاتها فى انشغالها بما يجرى . تسأل ، وتناقش ، وتوافق ، وتعترض ، وتلصق الشعارات ، وتردد الهتافات ، وتوزع المنشورات ، وتذوب وسط الجموع المتلاصقة ، الهاتفة . لم تفاجئنى تصرفاتها . أرمينية هى القضية التى اختارتها لرسالة الماجستير ، الاحتلال والتهجير والقتل والتدمير .
يقتحمنى الخوف من أن تجرفها أمواج المتظاهرين . تقع تحت الأقدام فلا تملك الوقوف . تتقلص يدى على موفقها ، وأجتذبها ناحيتى .
بدت كأنها تخوض معركتها الشخصية ، لا تشغلها النتائج ، ولا تتطلع لأفق الخطر . حتى المصادمات بين العساكر والمتظاهرين ، كانت تجتذبها ، تثيرها ، وتتابعها . تدخل معى فى مناقشات ، تبدأ ولا تنتهى . أستعيد أسئلتها وآراءها فيما لم أتصور أنها تحدثت فيه . تدرك ـ لابد ـ أن الدكتور جارو والخواجة أندريا يرفضان اقترابها من العمل السياسى . تتلفت ـ بعفوية ـ كمن تتأكد أنه ليس بيننا ثالث . تسأل ، أو تبدى الملاحظة . تتشابك الخيوط ، وتختلط ، وإن لم تجاوز مساحة الأحداث التى نعيشها . تفاجئنى بالمعلومة أو الفكرة التى ربما لم أفطن إليها . أحداث من المشهد الثقافى والسياسى . أمر الملك بدخول الحرب بحثاً عن الشعبية ، لم يخطر فى باله أنه سيخسر الحرب والشعبية . متطوعون من أوروبا الشرقية يصلون بطائراتهم للقتال إلى جانب اليهود . كان يجب على الدول العربية أن تساعد الفلسطينيين على خوض معركتهم ، ولا تحارب بالنيابة عنهم . تقتصر مشاركتها على المتطوعين . تظل الحرب فلسطينية يهودية ، وليست عربية يهودية ، فلا يكسب اليهود عطفاً لا يستحقونه . إذا لم تكن تعرف ، فإن العالم كله مع دولة اليهود فى فلسطين ، من أقنعته السياسة ومن أقنعته الرشوة . أنت تكتفى بقراءة الصحيفة العربية ، وأنا أقرأ الصحف الأجنبية أيضاً ..
فاجأتنى بالقول :
ـ مشكلة العرب أنهم يتعاملون مع اليهود باعتبارهم عصابات !
ـ هم كذلك بالفعل !
ـ لماذا إذن قبلوا الهدنة ؟
ـ الأمم المتحدة هى التى قررت الهدنة .
قاطعتنى :
ـ وهى التى أعلنت التقسيم ، وهى التى احتشدت فيها كل الدول الكبرى لإعطاء فلسطين لليهود
ـ إرادة المجتمع الدولى يجب أن تحترم !
ـ وخرق اليهود للهدنة .. ما معناه ؟!
حدجتنى بنظرة تتأمل الريبة التى لابد أنها نطقت فى وجهى :
ـ أذكرك بأن العرب ضيعوا الأندلس بإهمالهم آخر قلاع الجنوب الأسبانى ..
خلت حياتنا إلا من مفردات المظاهرة ، والإضراب ، والاعتصام ، وتوقف المواصلات ، والمنشورات ، والعمال ، والطلبة ، والصهيونية ، وفلسطين ، وإيقاف الدراسة . إذا كانت الحكومات المصرية قد أخفقت فى حل قضية مصر أمام مجلس الأمن ، فكيف نتوقع أن تحل قضية فلسطين ؟ . ما حدث فى دير ياسين يدل على أن اليهود يريدون طرد العرب من فلسطين ، وليس مشاركتهم الحياة فيها . انشغل ملوك العرب بالحصول على قطع من تورتة فلسطين ، بينما حصل اليهود على تأييد الشرق والغرب . هل هى أسلحة فاسدة ، أم قيادات فاسدة ؟ من يدفع ثمن الخيانة ؟
ألفنا المظاهرات ، وهجمات عساكر البوليس ، وضربات الهراوات ، ودبشكات البنادق ، وخراطيم المياه ، والقنابل المسيلة للدموع ، وإطلاق الرصاص فى الهواء . شاركنا المتظاهرين فى التقاط قطع الحجارة من الخرابات والبيوت المتهدمة والساحات ، وفى قطع الأشجار ، وانتزاع أعمدة النور ، وإقامة المتاريس وسط الشوارع ، وفى تقاطعاتها .
استقرت فى داخلى أشواق إلى أجوبة عن أسئلة ، تشغلنى دون أن تكتمل مفرداتها ..
***
فاجأنى ، أذهلنى ، ما فعلته نورا ..
قفزت إلى مقدمة سيارة واقفة إلى جانب الطريق . بدت بالتايير الكحلى المنسدل إلى ما فوق قدميها ، أعلى من كل الرءوس المتلاصقة . هزت قبضتها ، وهتفت بآخر صوتها : الاستقلال التام أو الموت الزؤام ..
كأنه مجموعة أصوات ، تختلف عما اعتدته فى صوتها ، وإن تآلفت الأصوات فى هارمونية اجتذبت صمت المتظاهرين . أعادت رفع قبضتها ، وخفضها . هزتها فى الهواء ..
ردد المتظاهرون الهتاف : الاستقلال التام أو الموت الزؤام ..
أخذ الهتاف شكل الإيقاع المنتظم . تسارع . رددت البنايات المحيطة بالميدان أصداء الهتاف ..
أبطأت الخطوات ، توقفت تماماً ، لما ظهر عساكر البوليس يسدون الشوارع الرئيسية المتفرعة من ميدان محمد على وميدان المنشية . ثلاثة صفوف متراصة ، يحملون العصى والمصدات الزجاجية . حول طريق السيارات إلى الكورنيش والشوارع المتفرعة منه . سدت كل المنافذ . بدت العودة إلى بحرى مستحيلة ..
اختلطت قطع الحجارة والهتافات ، والعصى والهراوات وكعوب البنادق والدروع والخوذات ودخان القنابل المسيلة للدموع ..
تفرقت المظاهرة إلى مظاهرات صغيرة . لاذت بالشوارع الصغيرة ، الجانبية . تبادلنا نظرات الحيرة . مددت يدى ـ بتلقائية ـ فأمسكت بذراعها , وسبقتها إلى شارع جانبى ..
سرنا صامتين ..
ملنا إلى انحناءات الشوارع الجانبية ، لا نقصد شارعاً ، ولا نتوقف لتبين ما إذا كنا نعرف اتجاهنا . تصخب فى داخلى ـ حدست أن هذا هو ما كانت تعانيه ـ ومضات المظاهرة وهتاف نورا وضربات العساكر والدماء والصراخ . هدأت خطواتنا ـ بالطمأنينة ـ والكورنيش يطالعنا أمام قهوة المطرى ..
دخل ـ دون تعمد ـ عالمى الذى اقتصر ـ منذ تركت عيسى أبو الغيط ـ على دراسات القضية المصرية ، وقضايا وادى النيل ، والقضية الفلسطينية . ثم الخروج فى مظاهرات ، وعقد المؤتمرات ، وحبى لنورا الذى يشبه سمكة يرفض الصياد جذبها !
ارتبكت للخاطر الذى راودنى بأن أضمها إلى صدرى . أقبل شعرها وجبينها وخديها وشفتيها . زاد فى ارتباكى مشيتها الصامتة ، ونظرة ـ غير متأملة ـ تتجه بها إلى الأفق . وكان قوس قزح يتوسط الميناء الشرقية .
قالت :
ـ لم أتصور أنى سأواجه هذا الموقف ..
وأنا أحدق فى وجهها الشاحب :
ـ هل أصبت ؟
يبدو أن العسكرى أشفق علىّ ، فوجه ضربته إلى الشاب بجانبى ..
ـ من ؟
ـ لا أعرفه .. شاب من المتظاهرين !
ـ مشاركة البنات فى المظاهرات قليلة .. لكنك الأولى فى قيادة المتظاهرين ..
وهى تستعيد ابتسامتها :
ـ لا أدرى كيف جرى ما حدث .. الانفعال وحده دفعنى إلى ما فعلت !
أردفت فى عفوية :
ـ الانتماء جميل !
***
قال لى فيصل مصيلحى :
ـ أنت تسير فى زقاق مسدود ..
ـ لماذا ؟
ـ علاقتك بهذه الفتاة لها نهاية واحدة ، هى الفراق ..
رفع كتفيه فى نفاد صبر :
ـ ما معنى أن تحب فتاة لا أمل لك فى الزواج منها ؟
ـ ليس عند أى منا موانع طبية . يمكن أن نتزوج ..
ـ توجد موانع شرعية . إنها من ديانة مختلفة ..
ـ ديننا لا يمنع الزواج من الكتابية ..
ـ وأهلها .. هل يوافقون ؟
ـ ترحيبهم بعلاقتنا يؤكد موافقتهم ..
ـ رحبوا بالصداقة لا بالزواج ..
ـ الخواجة أندريا متعصب للأرمن ، لكنه متسامح فى الدين ..
قال فى نبرة حاسمة :
ـ قراءة قصص الحب فى الروايات شىء ، ومحاولة تقمص شخصيات تلك القصص شىء آخر