فصل ـ 2 ـ

18 0 00

 كتب على لافتة العيادة بخط كوفى : الدكتور جارو فارتان ـ طبيب أمراض باطنة وقلب . لم أره يعتذر عن أية حالة . حتى أمراض العيون والجلد والعظام ، كان يشير بأدوية ، يكتبها فى دفتر الروشتات . تخصصه فى أمراض القلب . حدثنى عن ملاحظته بأن المرضى يقصدون طبيب أمراض الباطنة ، يعالجهم ، أو يحيلهم على الطبيب المتخصص ..

استروحت الطيبة فى ملامحه : البشرة البيضاء المشربة بالحمرة ، الشعر الأبيض القليل ، المهوش ، فوق الرأس ، العينين اللوزيتين الساجيتين تطلان من وراء النظارة الطبية المستديرة ، ذات الإطار الذهبى ، ويعلوهما حاجبان تساقط معظم ما فيهما من الشعر . أسفل الفم ذقن بيضاء مدببة ، كأنها ندفة قطن . تناثرت على ظهر يديه بقع بنية خمنت أنها بتأثير الشيخوخة . ارتدى بالطو أبيض على جاكت من الكتان ، وقميص بلا ربطة عنق . يبدو متمهلاً ، بطيئاً ، فى كلماته وإيماءاته ..

ترددت على العيادة لحساسية فى صدرى . زاد السعال ، وتواصل . عانيت أزمات حقيقية . أشار فيصل مصيلحى بأن أتردد على الدكتور جارو . قدّر أن أعوام عمره أتاحت له أكبر قدر من الممارسة .

لمح فى يدى كتاب محمد خطاب " المسحراتى " . قال وهو يميل بالسماعة على صدرى :

ـ هل لك اهتمامات سياسية ؟

 قلت :

ـ أنا أكتب فى السياسة ..

ـ أين ؟

 ـ فى الصحف .

وتنبهت إلى أن اسمى لم يذيّل شيئاً مما كتبته :

ـ ليس فى جريدة محددة .

غادرت العيادة بروشتة دواء ، وموعد استشارة ، ودعوة إلى لقاءات تالية .

قبل أن يترك الدكتور باب العيادة مفتوحاً ، ويجعل باب حجرة الكشف موارباً ، كان عطية يستقبل المترددين . فى حوالى الخامسة والعشرين ، أبرز ما يميزه عينان واسعتان ، وبشرة أميل إلى السواد ، بها آثار جدرى قديم . يرتدى قميصاً وبنطلوناً ، لا يغيرهما ، وإن أضاف إليهما ـ فى الشتاء ـ بلوفر واسعاً على جسده الضئيل . لم يكن يؤدى عملاً محدداً ، هو ممرض ، وخادم ، ويعد القهوة للطبيب وزواره ، ويشترى الاحتياجات من شارع الميدان ، ويبيت فى داخل الشقة .

استغنى عنه العجوز لأسباب كتمها . أهمل سؤالى عن غياب الشاب . غمغم بكلمات غير واضحة ، وسكت .

قلت وأنا أشير إلى القميص على صدرى :

ـ لم أتوقع تبدل الجو بعد الظهر ..

قال :

ـ نحن فى سبتمبر .. لا مفاجأة فى الحر أو البرد ..

ترددت على عيادة الدكتور جارو فارتان للصداقة لا للمرض . لم يكن يشعرنى بفارق السن . لم أضعه حتى فى موضع الأب أو الأخ الأكبر . هو صديقى . تختلط ـ فى مناقشاتنا ـ تطورات الأوضاع السياسية وأحوال الجو والمسرحيات والأفلام وما تنشره الصحف . إذا تكلم ، اتجه إلى محدثه بنظرة مباشرة كأنه يتعرف إلى رد الفعل . أبدى ملاحظات ، لا أتدبر بعضها جيداً . يظل على هدوئه . يأذن لى ـ بمداعباته ـ بتبادل النكات والدعابات . أدرك مشاعره العميقة تجاهى ، مشاعر لا ترتبط بسن ، ولا تجربة عمر ، ولا مكانة اجتماعية .

البناية على ثلاث واجهات . طابقها الأرضى يشغله مصنع للبلاط . اكتفى بالباب الرئيسى مفتوحاً على شارع إسماعيل صبرى ، وتحولت الأبواب الأربعة الجانبية على فاترينات لعرض نماذج من إنتاجه ، بينما ظلت الأبواب الخلفية مغلقة . أول الطوابق الثلاثة تشغله عيادة الدكتور جارو ، والثانى لأسرة صاحب البناية والمصنع . اسم الحلبى يشى بانتسابها إلى سوريا . أما الطابق الثالث ، فيبين ـ من النداءات والمناقشات المترامية من شرفاتها ونوافذها ـ أنها أسرة كبيرة العدد ..

الشرفة ـ فى زاويتى البناية ـ تطل على حارة صغيرة ، تفصل بينها وبين مجيرة غطى الجير معظم مساحتها ، وتناثر على الجانبين رصات طوب أحمر وشكاير أسمنت ، وتطل ـ من الناحية الثانية ـ على شارع إسماعيل صبرى بحركته الهادئة ودكاكينه . ومن الخلف تبدو مئذنة جامع سيدى على تمراز ، والشارع الخلفى الممتد أمامها إلى شارع التمرازية . يفضى ـ من ناحية ـ إلى شارع رأس التين ، ومن الناحية الثانية إلى الشارع الموازى لشارع الميدان .

النظر من شرفة الزاوية يمضى إلى التقاء شارع إسماعيل صبرى بتقاطعات شوارع فرنسا والتتويج وطريق الكورنيش . فى نهاية الامتداد السور الحجرى المطل على المينا الشرقية ، تتناثر فيها ـ عن بعد ـ قوارب صيد العصارى من المياس والبورى والبربونى والمرجان ..

قال :

ـ ماذا تقرأ هذه الأيام ..

عرفت ـ من أحاديثه ـ أنه أجاد ـ بعد قدومه إلى القاهرة ـ قراءة العربية وكتابتها ، وإن لم يستطع أن يتخلص من اللكنة . هل لأنه قليل الاحتكاك بالمجتمع الذى يعيش فيه ؟ . ربما استبدل الكلمة العربية بمفردة من لغته التى لا أعرفها ، أو بالإنجليزية ، فتسهل متابعتى .


قلب ـ ذات عصر ـ فى الكتب التى غطت واجهة المكتبة الخشبية الصغيرة . سحب من أسفل ، طاولة علاها التراب .

قلت لنظرته المحرضة :

ـ لم ألعب الطاولة من قبل .

قال :

ـ أعلمك .

أردف فى لهجة من يملى أمراً :

ـ لا تكتف بالقراءة هواية وحيدة !

تعددت محاولاته . يفتح ضلفتى المستطيل الخشبى . يشير إلى مفردات اللعبة : الدبش ، الزهر ، اليك ، شيش بيش ..أقلده فى نقلات القشاط . ألاحظ عدم انبساطه . أطلب تكرار معاونته .

هز رأسه ـ فى النهاية ـ وهمس :

ـ لا بأس بالقراءة هواية وحيدة !

قلت :

ـ أركز على قراءات أفيد منها فى الكتابة عن الاحتلال الإنجليزى لمصر ..

ـ لكن مصر دولة مستقلة ..

ـ أناقش وجودهم العسكرى فى منطقة القناة ..

ـ لن يخرج الإنجليز من مصر إلا بالقوة ..

ثم وهو يهز رأسه :

ـ إنهاء الاحتلال الإنجليزى هدف يجب أن يتفق المصريون عليه .

قلت :

ـ النقراشى لا يتعامل مع القضية المصرية بالجدية المطلوبة ..

ـ سخطك على تحركات النقراشى .. لا ينفى إعجاب الناس به ..

وابتسمت عيناه اللوزيتان :

ـ ألم تر حفاوة المصريين باستقباله ؟

 وغلب على صوته سخرية :

ـ أعجبهم قوله للإنجليز فى مجلس الأمن : أخرجوا من بلادنا أيها القراصنة !

قلت :

ـ مشكلة الحكومات المصرية أنها وجدت فى الشيوعية خطراً وحيداً ..

قال :

ـ ما تشهده مصر الآن مظاهرات لم تعرفها منذ 1935 ..

وسرح بنظراته :

ـ من متابعتى .. أتوقع المقاومة المسلحة ..

وسكت .

يعد نفسه من المحظوظين بعد أن منعت الحكومة الجنسية المصرية عن معظم النازحين من الأرمن ، لكنه يحرص أن يظل على الهامش . لا شأن له بقضايا المصريين ولا مشكلاتهم . يشاهد ـ ويتابع ـ مشكلات لا تخصه ، لا تجره إليها . يكتفى بالإنصات ، ومحاولة الفهم ، لا يتدخل بملاحظة ، أو برأى . يجتذبه الحوار ، ثم ما يلبث أن يتنبه ..

بدا أنه رسم لوحة للعالم ، وشاها بالألوان والظلال . استقر على أن هذه هى صورة العالم . رفض ما عداها من صور تختلف عما رسمه فى لوحته . بدا العالم غريباً ، ومعقداً ، ومربكاً ، ومن الصعب تغييره ..

قلت لمجرد أن أكسر الصمت :

ـ انتهى النقراشى منذ حادثة كوبرى عباس ..

ونظرت ـ بتلقائية ـ ناحية الشرفة المطلة على المينا الشرقية :

ـ ضغط على كل الأزرار فأحدث ما نشهده الآن من إضرابات ومظاهرات ..

طقطق بلسانه فى استياء ، وظل صامتاً ..

قلت :

ـ أثق أن استقلال مصر يشغلك . إنها وطنك الثانى ..

ـ تغيظنى عبارة وطنك الثانى ..

وومضت عيناه بما لم أتبينه :

ـ أعرف أنى لست فى وطنى .. طائر بعيد عن سربه ..

وسرى فى صوته تأثر واضح :

ـ صعب أن تحيا فى بلد لا أهل لك فيه ..

قلت :

ـ نحن أهلك يا دكتور جارو ..

وهو ينتزع ضحكة :

ـ كلام جميل .. لكن ما تبقى من أهلى يحيون فى الوطن أيضاً ..

قلت :

ـ الوطن مفهوم برجوازى ..

قال جارو فارتان :

ـ هذه مجرد كلمات نظرية .. شعارات لا معنى لها ..

ثم وهو يعدل النظارة الطبية فوق أنفه :

ـ يضايقنى تباين النظرتين : الشفقة والرفض . الشفقة لأنى مطرود من بلدى ، والرفض لأنى أجنبى ..

وشوح بيده :

ـ دعك من أنى طبيب ولست مجرد لاجئ ..

قلت :

ـ ألم تفكر فى الزواج ؟

 ـ قرار الزواج إن لم يتخذ فى وقته المناسب ، فعلى الإنسان أن يتناساه !

وشرد فى الفراغ بعينين ساهمتين :

ـ كان الزواج متاحاً فى أعوام إقامتى داخل المخيم . شهد المخيم ـ فى أعوامه الأولى ـ حالات خطوبة وزواج ، سرية وبلا إجراءات قانونية أو دينية . مجرد أن يقتنع أحدهما بعرض الآخر ، يمارسان حياتهما الزوجية باعتبارها كذلك . من يلتقط طرف الخيط . فطن مسئولو المخيم إلى الزيجات المفاجئة ، والتى لم يتحدث عنها أحد . شجعوا قيام أسر بواسطة الكنيسة . زادت حركات الزواج والإنجاب . انشغلت حتى الأذنين فى ولادة جيل جديد من الأرمن . اكتفيت ـ كما ترى ـ بهذا الدور . لم أشارك فى هوجة الزواج ، لأنى لم أتصور نفسى زوجاً فى ظروف تفتقد الاستقرار ..

وران انكسار على صوته :

ـ غاية ما أستطيع القيام به الآن هو دور الأب !

حدثنى عن فترة ما بعد استقراره فى الإسكندرية . تعرف إلى عائلات أرمنية ، كون صداقات مع المترددين على العيادة ، ومع جيران البيت . مرة وحيدة تطورت العلاقة مع امرأة مطلقة من الإسكندرية . لمحت بالموافقة على زواجهما ، وإن تحدثت عن رفض الإسلام زواج المسلمة من كتابى . تقبل فكرة الحياة وحيداً . انطوائيته تغلبت . يترك العيادة إلى البيت ، وإلى زيارات متباعدة إلى النادى الأرمنى " ديكران يرجات " . راجع نفسه فى لحظة التفات إلى الوراء . كان الأفق بعيداً ، فآثر العزوبية .

وهو يلقى فى جوفه حبة متداخلة الألوان ، أتبعها بجرعة ماء :

ـ لعلاج أمراض الشيخوخة !

وأغمض عينيه . بدتا كشريطين أسفل حاجبيه :

ـ أنا مثل بناية مهددة بالانهيار .. تعالج تصدعاتها بالترميمات ، لكنها تظل عرضة للسقوط فى أية لحظة ..

قلت :

ـ كلنا بنايات مهددة .. الموت لا يفرق بين كبير ولا صغير ..

تباطأت الكلمات على شفتيه :

ـ هناك الاحتمال والحتم . أنا الآن فى مرحلة الحتم .. الانتظار ..

وأنا أرنو إليه بنظرة مشفقة :

ـ فى ظهور كل صبح ما يدعو الإنسان إلى شكر الله !

كان يشعر أن الذاكرة لم تعد تسعفه . يظهر تخوفه من انسحاب ذاكرته ، فينسى ما لا يصح نسيانه : هل سأظل طبيباً إن نسيت الطب ؟!

يحزنه أنه يخفق ـ أحياناً ـ فى استدعاء الأمكنة والقسمات والتواريخ . تغيب عن ذاكرته تماماً . يضغط على جبهته فى محاولة للتذكر . يخلى يده ، ويهز رأسه فى أسف . يرفض كل الأسباب ، ويطمئن إلى أن الشيخوخة ربما كانت ـ وحدها ـ هى السبب . يخشى ـ من تلاشى الذاكرة ـ أن ينسى فترة حياته فى أرمينية . إذا حدث ذلك ، فسيصبح ـ والتشبيه له ـ مثل مصعد معطل بين الطوابق !

قال :

ـ من الأفضل أن يرحل المرء قبل أن يدركه خرف الشيخوخة ..

قلت :

ـ برناردشو تجاوز التسعين دون أن يفقد صفاء ذهنه ..

وهو يومئ برأسه :

ـ برناردشو عبقرى . أما أنا فمجرد عجوز أرمنى ..

 ***

التفت إلى ما يشبه النقرات على باب حجرة الكشف ..

ثمة شئ ما فى عينيها ، اجتذبنى إليها . عينان واسعتان تفيضان بالبراءة والبساطة ..

استرقت النظر إلى ملامحها : جمال طفولى ، وجسد عفى ـ هذا هو التعبير الذى يحضرنى ـ وعينان زرقاوان ، وأنف دقيق ، وشفتان رقيقتان كورقتى وردة . فى وجنتيها غمازتان ، تبتسمان مع ابتسامتها الدائمة . تدير على إصبعها ـ بعفوية ـ خصلة الشعر الكستنائى المسدلة وراء أذنها . لا تستعمل المساحيق ، ولا أحمر الشفاه . ترتدى فستاناً أبيض ، على جانب صدره الأيسر رسم وردة حمراء ..

اتجهت نحو الدكتور جارو بابتسامة كأنها جزء من ملامحها :

ـ نورا أندريا بابيجيان .. مصرية من أبوين أرمنيين ..

هز رأسه يستحثها على المتابعة ..

ـ أعد رسالة عن مذابح الأرمن أعوام الحرب العالمية الأولى وبعدها ..

ـ وبماذا أفيدك ؟

 ـ قيل لى إنك قد تفيدنى ..

أسند رأسه إلى ظهر المقعد ، وأغمض عينيه من خلف النظارة الطبية ، وهمس بنبرة يشوبها أسى :

ـ أنت تعيدين أياماً لا أحبها ..

اكتفت بالنظر إليه ، ثم قالت :

ـ ربما أنت الوحيد الذى عاش ما حدث ..

وهو يهز رأسه :

ـ فى مصر .. ربما ..

ـ هل نبدأ الآن ؟

 ـ ماذا ؟

 ـ التسجيل ..

ـ المفروض أن أوافق أولاً ..

واعتدل فى جلسته :

ـ إن وافقت فستكون لقاءاتنا فى غير أوقات العيادة ..

وقال فى لهجة باترة :

ـ عصر الغد .. فى الرابعة والنصف عصراً ..

أدركت أنه خصص لها من الوقت ساعة ونصفاً . يبدأ تقاطر المرضى فى السادسة .