فصل ـ 13 ـ

18 0 00

 مذبحة دير ياسين ..

بدت شاغلاً للناس فى كل مكان : 250 عاملاًُ فلسطينياً كانوا عائدين وقت الغروب من عملهم . تربص لهم أعضاء الأرجون وحصدوهم بالرصاص .

حضرت مؤتمراً ، مزق فيه الطلبة صور الملك فاروق ، وأشعلوا فيها النيران . أول هجوم سافر ضد الملكية . لحقتهم فى مظاهرة تهتف : لا ملك إلا الله .

قال الدكتور جارو :

ـ ما يحدث فى فلسطين ليس أول إبادة يشهدها هذا القرن . لا تنس الإبادة العرقية التى قام بها الأتراك ضد الأرمن .

ونطق الأسى فى صوته :

ـ اللجوء إلى الإبادة يأتى عند الشعور بخطر السكان الأصليين . هذا ما حدث فى أمريكا ، وفى أرمينية ، وهو ما يحدث فى فلسطين ..

وطرقع بأصابعه :

ـ هدف مذبحة دير ياسين ـ كما أرى ـ دفع الفلسطينيين إلى الفرار بحياتهم خارج بلادهم ..

وأسلم نفسه إلى شرود :

ـ هذا هو ما أراده الأتراك بمذابحهم ضد الأرمن ..

واتجه ناحيتى بنظرة متسائلة :

ـ هل تذكر ما رويته ؟

 أمنية يستعيدها ، يكررها : أن يزاح الغموض عن حقيقة الإبادة العرقية للأرمن ، الموت جوعاً ، والضرب المفضى للموت ، وعمليات الاغتصاب ، والتشوه الجنسى . ومضت إمكانيات ، ثم اختفت . بدت المسافة متسعة فيصعب تقريبها ..

قال :

ـ لليهود دور سلبى فى أوقات المذابح العثمانية للأرمن . أوكلوا إلى أنفسهم دور المرشدين عن الفارين من الإبادة ..

وبدا أنه يجاهد ليبدو صوته هادئاً :

ـ عُرف ـ فيما بعد ـ أنهم عرضوا على العثمانيين أثناء المذابح موافقة السلطان عبد الحميد على استيطان اليهود فلسطين مقابل التأثير على الإعلام الأوروبى والأمريكى ..

أتبين ـ فى رنة صوته ـ ما يعانيه . حتى لو كسا الهدوء وجهه . حتى الابتسامة الخافتة ، المتكلفة ، على شفتيه ، أحدس ما بذله من جهد فى رسمها ..

 ***

جاءنى صوت نورا فى التليفون حزيناً ، مرتبكاً :

ـ ألقوا القبض على الدكتور جارو ..

أغلقت السماعة دون أن أعرف من هم ، ولا لماذا ألقوا القبض عليه ؟

 كان إعلان قيام دولة إسرائيل ، وتحرك القوات العربية إلى فلسطين ، محور أخبار الإذاعات والصحف ومناقشات المكاتب والمقاهى والأسواق . كان يتأمل ارتباكى من أخبار الاعتقالات التى امتدت إلى كل أحياء الإسكندرية . استقبل معتقل أبو قير المئات من المصريين واليونانيين والأرمن واليهود . أعانى الانتظار أن يطالعنى ـ فى لحظة لا أتوقعها ـ من يحيط بساعدى وهو يقول : تفضل معى !

أطلت الوقوف أمام باب الشقة . لاحظت أمى أنى أكتم ما يشغلها أن أبوح به . كنت أعانى ترقب المجهول . الخطر الذى لا أدرى بواعثه ولا ملامحه . أبتعد عن أمى ، وعن نورا ، وعن الحياة التى ألفتها . أدخل نفقاً تطمس الظلمة مرئياته ..

قلت :

ـ إذا تأخرت عن البيت لا تقلقى ..

واتجهت للتساؤل فى عينيها :

ـ ربما أسافر خارج الإسكندرية ..

وهى تدير خصلة الشعر :

ـ هل تخفى شيئاً ؟

 ـ أبداً .. لكن إذا تأخرت سأترك خبراً عند فيصل مصيلحى فى المكتب ..

أغلقت الباب خلفى ، حتى لا تربكنى بالمزيد من الأسئلة ..

فاجأنى فيصل مصيلحى بتخوفه من دخول القوات العربية النظامية ، بدلاً من قوات الفدائيين . الجيوش تعبير عن أنظمة فاسدة . أما الفدائيون ، فهم يدافعون ـ بيقين دينى ـ عن بلاد الأقصى . استعاد قول الشيخ البنا للنقراشى : فلسطين فيها عصابات صهيونية ، ونحن عصابات إسلامية ، والعصابات يضرب بعضها بعضاً . إن انتصرنا فلمصر ، وإن متنا دخلنا الجنة ..

قال :

ـ للإخوان ست كتائب قبل إعلان الهدنة الأولى .. لماذا يجبرهم على قبول ما اضطر لقبوله ؟

 قال لى العجوز دون مناسبة :

ـ لا شأن للحكومة بأصحاب الرأى .. لكنها تعتقل من ينضمون إلى تنظيمات معادية لها ..

قلت فى دهشة :

ـ لماذا تخبرنى بهذا ؟

 بدا أن الرجل واصل شروده ، فلم يسمعنى . كانت عيناه ـ فى الأيام الأخيرة ـ دائمتى الشرود . كأنه ينفصل عما حوله ، وأنه لا يرانى فى جلستى أمامه ..

أعدت السؤال ..

قال :

ـ إذا نقل أحدهم آراءك فلا خوف . المهم أن تظل فى حدود إبداء الرأى ..

لم أعد أتردد على العيادة . لم أعد أسير فى اتجاه شارع إسماعيل صبرى ، ولا الشوارع المتصلة به . توقعت أنهم دخلوا العيادة لاعتقالى . إن لم يفطنوا إلى المنشورات ، فلابد أن تثيرهم مقالات الصحف .

سابع يوم ، وربما ثامن يوم ، كانت نورا تنتظرنى أمام المكتب :

ـ لم يكونوا يقصدونك كما تصورنا ..

وافتر فمها عن ابتسامة باهتة :

ـ ألقوا القبض على الدكتور جارو .. ثم أفرجوا عنه ..

لم أخف دهشتى :

ـ لا صلة للرجل بالسياسة ..

ـ لعلها وشاية أو بلاغ كاذب ..

هزت رأسها مؤمّنة :

ـ حققوا معه ، ثم أفرجوا عنه ..

أذهلنى هدوؤه كأنه لم يعتقل ، ولا تعرض للتحقيق ، بكل ما ينطوى عليه من ملابسات . ظلت الابتسامة الهادئة على شفتيه ، وإن تكثفت ـ فى وجهه ـ خيوط توتر صامت ..

قال :

ـ البلد فى حالة حرب ، وأنا أجنبى ..

هتفت بانفعال :

ـ أنت أكثر مصرية من بعض المصريين ..

ـ رأى أعتز به .. لكن الأمن لا يعرف التعبيرات الطيبة ..

أردف فى لهجة محايدة :

ـ هذا ليس وطنى ..

وتلفت حوله كالمتحير :

ـ لم يعد يغضبنى فقد أى شئ منذ فقدت أرمينية ..