مذبحة دير ياسين ..
بدت شاغلاً للناس فى كل مكان : 250 عاملاًُ فلسطينياً كانوا عائدين وقت الغروب من عملهم . تربص لهم أعضاء الأرجون وحصدوهم بالرصاص .
حضرت مؤتمراً ، مزق فيه الطلبة صور الملك فاروق ، وأشعلوا فيها النيران . أول هجوم سافر ضد الملكية . لحقتهم فى مظاهرة تهتف : لا ملك إلا الله .
قال الدكتور جارو :
ـ ما يحدث فى فلسطين ليس أول إبادة يشهدها هذا القرن . لا تنس الإبادة العرقية التى قام بها الأتراك ضد الأرمن .
ونطق الأسى فى صوته :
ـ اللجوء إلى الإبادة يأتى عند الشعور بخطر السكان الأصليين . هذا ما حدث فى أمريكا ، وفى أرمينية ، وهو ما يحدث فى فلسطين ..
وطرقع بأصابعه :
ـ هدف مذبحة دير ياسين ـ كما أرى ـ دفع الفلسطينيين إلى الفرار بحياتهم خارج بلادهم ..
وأسلم نفسه إلى شرود :
ـ هذا هو ما أراده الأتراك بمذابحهم ضد الأرمن ..
واتجه ناحيتى بنظرة متسائلة :
ـ هل تذكر ما رويته ؟
أمنية يستعيدها ، يكررها : أن يزاح الغموض عن حقيقة الإبادة العرقية للأرمن ، الموت جوعاً ، والضرب المفضى للموت ، وعمليات الاغتصاب ، والتشوه الجنسى . ومضت إمكانيات ، ثم اختفت . بدت المسافة متسعة فيصعب تقريبها ..
قال :
ـ لليهود دور سلبى فى أوقات المذابح العثمانية للأرمن . أوكلوا إلى أنفسهم دور المرشدين عن الفارين من الإبادة ..
وبدا أنه يجاهد ليبدو صوته هادئاً :
ـ عُرف ـ فيما بعد ـ أنهم عرضوا على العثمانيين أثناء المذابح موافقة السلطان عبد الحميد على استيطان اليهود فلسطين مقابل التأثير على الإعلام الأوروبى والأمريكى ..
أتبين ـ فى رنة صوته ـ ما يعانيه . حتى لو كسا الهدوء وجهه . حتى الابتسامة الخافتة ، المتكلفة ، على شفتيه ، أحدس ما بذله من جهد فى رسمها ..
***
جاءنى صوت نورا فى التليفون حزيناً ، مرتبكاً :
ـ ألقوا القبض على الدكتور جارو ..
أغلقت السماعة دون أن أعرف من هم ، ولا لماذا ألقوا القبض عليه ؟
كان إعلان قيام دولة إسرائيل ، وتحرك القوات العربية إلى فلسطين ، محور أخبار الإذاعات والصحف ومناقشات المكاتب والمقاهى والأسواق . كان يتأمل ارتباكى من أخبار الاعتقالات التى امتدت إلى كل أحياء الإسكندرية . استقبل معتقل أبو قير المئات من المصريين واليونانيين والأرمن واليهود . أعانى الانتظار أن يطالعنى ـ فى لحظة لا أتوقعها ـ من يحيط بساعدى وهو يقول : تفضل معى !
أطلت الوقوف أمام باب الشقة . لاحظت أمى أنى أكتم ما يشغلها أن أبوح به . كنت أعانى ترقب المجهول . الخطر الذى لا أدرى بواعثه ولا ملامحه . أبتعد عن أمى ، وعن نورا ، وعن الحياة التى ألفتها . أدخل نفقاً تطمس الظلمة مرئياته ..
قلت :
ـ إذا تأخرت عن البيت لا تقلقى ..
واتجهت للتساؤل فى عينيها :
ـ ربما أسافر خارج الإسكندرية ..
وهى تدير خصلة الشعر :
ـ هل تخفى شيئاً ؟
ـ أبداً .. لكن إذا تأخرت سأترك خبراً عند فيصل مصيلحى فى المكتب ..
أغلقت الباب خلفى ، حتى لا تربكنى بالمزيد من الأسئلة ..
فاجأنى فيصل مصيلحى بتخوفه من دخول القوات العربية النظامية ، بدلاً من قوات الفدائيين . الجيوش تعبير عن أنظمة فاسدة . أما الفدائيون ، فهم يدافعون ـ بيقين دينى ـ عن بلاد الأقصى . استعاد قول الشيخ البنا للنقراشى : فلسطين فيها عصابات صهيونية ، ونحن عصابات إسلامية ، والعصابات يضرب بعضها بعضاً . إن انتصرنا فلمصر ، وإن متنا دخلنا الجنة ..
قال :
ـ للإخوان ست كتائب قبل إعلان الهدنة الأولى .. لماذا يجبرهم على قبول ما اضطر لقبوله ؟
قال لى العجوز دون مناسبة :
ـ لا شأن للحكومة بأصحاب الرأى .. لكنها تعتقل من ينضمون إلى تنظيمات معادية لها ..
قلت فى دهشة :
ـ لماذا تخبرنى بهذا ؟
بدا أن الرجل واصل شروده ، فلم يسمعنى . كانت عيناه ـ فى الأيام الأخيرة ـ دائمتى الشرود . كأنه ينفصل عما حوله ، وأنه لا يرانى فى جلستى أمامه ..
أعدت السؤال ..
قال :
ـ إذا نقل أحدهم آراءك فلا خوف . المهم أن تظل فى حدود إبداء الرأى ..
لم أعد أتردد على العيادة . لم أعد أسير فى اتجاه شارع إسماعيل صبرى ، ولا الشوارع المتصلة به . توقعت أنهم دخلوا العيادة لاعتقالى . إن لم يفطنوا إلى المنشورات ، فلابد أن تثيرهم مقالات الصحف .
سابع يوم ، وربما ثامن يوم ، كانت نورا تنتظرنى أمام المكتب :
ـ لم يكونوا يقصدونك كما تصورنا ..
وافتر فمها عن ابتسامة باهتة :
ـ ألقوا القبض على الدكتور جارو .. ثم أفرجوا عنه ..
لم أخف دهشتى :
ـ لا صلة للرجل بالسياسة ..
ـ لعلها وشاية أو بلاغ كاذب ..
هزت رأسها مؤمّنة :
ـ حققوا معه ، ثم أفرجوا عنه ..
أذهلنى هدوؤه كأنه لم يعتقل ، ولا تعرض للتحقيق ، بكل ما ينطوى عليه من ملابسات . ظلت الابتسامة الهادئة على شفتيه ، وإن تكثفت ـ فى وجهه ـ خيوط توتر صامت ..
قال :
ـ البلد فى حالة حرب ، وأنا أجنبى ..
هتفت بانفعال :
ـ أنت أكثر مصرية من بعض المصريين ..
ـ رأى أعتز به .. لكن الأمن لا يعرف التعبيرات الطيبة ..
أردف فى لهجة محايدة :
ـ هذا ليس وطنى ..
وتلفت حوله كالمتحير :
ـ لم يعد يغضبنى فقد أى شئ منذ فقدت أرمينية ..