فصل ـ 20 ـ

18 0 00

 هل اعتبرت اعتزام جارو السفر نهاية لعلاقتنا ؟

 ترددت على الأماكن التى اعتدنا اللقاء فيها . مكتبة البلدية ، مكتبة الجامعة ، ميدان محطة الرمل ، شاطئ ستانلى ، المسافة من الكورنيش بين تمثال الخديو إسماعيل ولسان السلسلة ، قلعة قايتباى ، ميدان أبو العباس . حتى بائع الصحف على ناصية أجزخانة جاليتى ، سألته عنها ..

قال فى ابتسامة تذكر :

ـ نعم .. البنت الخوجاية ..

وقلب شفته السفلى :

ـ لم أرها إلا معك ..

رنا فيصل مصيلحى ناحيتى بنظرة مشفقة :

ـ يبدو أن علينا تبادل النصائح ..

ثم هز سبابته فى وجهى :

ـ لا تكثر من الحركة هذه الأيام ..

ـ ماذا تقصد ؟

 ـ المظاهرات والمؤتمرات الشعبية . نحن فى حرب ، وعين البوليس صاحية ، ويده لا ترحم !

 ***

كان الوقت عصراً ..

لمحت ضلفتى الشرفة المطلة على المينا الشرقية مفتوحتين . مضيت نحو البيت بعفوية . ضغطت على الجرس .

ـ نورا ..

كانت تعانى ارتباكاً ، والترحيب يغيب عن نظراتها ..

ـ ماذا حدث ؟

 أدارت وجهها تتفادى نظرتى المتسائلة :

ـ لا شئ ..

سبقتنى إلى مقعد الدكتور جارو . أكرهت نفسى على الابتسام ، حتى لا تفطن إلى ما أعانيه ..

ـ تبدين متغيرة ..

وهى تهز الهواء براحتها :

ـ لعله الحر !

تظل ساكتة ، ثم تقول :

ـ قد يتأخر الدكتور عن العيادة ..

ـ هذه فرصة لنتبادل الحديث ..

واستطردت :

ـ لم أرك منذ أيام ..

بدا أنها تريد تفويت الملاحظة :

ـ أظن أن جارو لن يأتى اليوم ..

لاحظت نطقها اسمه دون لقب . أردفت :

ـ طلب منى أن أتحدث إليك ..

ـ ماذا تخفين ؟ ماذا تخفيان ؟

 ـ تزوجت الدكتور ليلة أمس ..

ت .. ز .. و .. جـ .. ت ..

متى ، وكيف ، نشأت العلاقة ؟

 كنت على ثقة أن نورا والعجوز من عالمين متباعدين ، يجهل أحدهما أفكار الآخر ومشاعره . لم ألحظ عاطفة ما بينها وبين العجوز : عبارة ، ضحكة ، تبدل نبرة الصوت ، لمسة الأصابع على ظهر اليد ، همسة فى الأذن ، إيماءة ، ابتسامة ذات مغزى . صمت مفاجئ مرتبك . أى تصرف يشى بعاطفة معلنة ، أو مستترة . حتى حواراتهما بالأرمنية غاب عنها انفعال العاطفة .

قلت وأنا أحاول السيطرة على مشاعرى من تأثير المفاجأة :

ـ لماذا لم يحدثنى الدكتور جارو بنفسه ؟ لماذا لم يبلغنى باعتزامه الرحيل ؟

 قالت :

ـ هو يحبك كما تعلم !

الحب دعوى كاذبة . يختفى المجرم بعد ارتكاب جريمته . أدرك العجوز ما فعل ، فلجأ إلى الاختفاء . إن لم يكن هذا هو العداء ، فماذا يكون ؟

 داخلنى إحساس أن كل شىء زائف ، وغير حقيقى . التفت البنايات بعاصفة من الغبار المصفر ، وحلقت الطيور السوداء فى أفق المينا الشرقية ، وتساقطت حجارة الكورنيش فى قلب البحر ، وواصل عفريت الليل سيره دون أن يضىء بعصاه فوانيس الطريق ، وتداخلت حلقة الذكر المترامية من على تمراز بما اختلطت كلماته ومعانيه ، وعانت صفارات البواخر فى الميناء الغربية حشرجة مقبضة ، وتحول ميدان الخمس فوانيس إلى سرادق للعزاء ، وهتفت المظاهرات للظلم ، وللشيطان ، وتمنيت لو أن الأتراك أفنوا الأرمن عن آخرهم ..

ـ أنت ؟!

وفى دهشة :

ـ لكنك ..

ـ أعترف أنى أحبك ..

عصتنى الكلمات ، تتشكل فى فمى ، لكننى أعجز عن نطقها :

ـ وأنت برهنت لى على حبك ..

شعرت أن العبارة أفلتت منى دون أن أتدبر المعنى . استطردت :

ـ ووافقت على زواجنا ..

ـ أن أحبك ، لا يعنى أن أتزوجك ..

وسرت ارتعاشة فى صوتها :

ـ الحب شئ والزواج شئ آخر ..

شردت فى معنى الكلمات ، ثم غمغمت كأنى أخاطب نفسى :

ـ أنا لا أفهمك ..

ـ الزواج استقرار . أريد أن أستقر فى أرمينية ..

استطردت فى ابتسامة متكلفة :

ـ تزوجته ليصحبنى إلى أرمينية ..

ـ لا أفهم .. هل زواجك منه شرط للسفر ؟

 ـ جنسيتى مصرية ..

ثم وهى تضغط على الكلمات :

ـ هذه فرصتى الوحيدة لأرى أرمينية ..

ـ تتخلين عن كل شىء لرؤيتها ؟

 ـ أذهب للإقامة لا للفرجة !

ـ ألن تستكملى إعداد الماجستير ؟

 ـ ما أريده الآن أن أسافر إلى أرمينية .

ـ سافرى للسياحة .. للفسحة .. وعودى ..

ـ لا أهل للدكتور هناك ..

أضافت فى نبرة واثقة :

ـ يريدنى أن أكون أهله ..

ـ هذه مشاعر شفقة ..

ـ أطلت التفكير قبل أن أتخذ قرارى ..

ـ الرجل أكبر من أبيك ..

ـ أعرف ..

لم يعد لدىّ ما أقوله ، فسكت . رفضت أن أجتر الكلمات التى لا تعنى شيئاً فى الأغلب ..

حل صمت ، مفعم بالمعانى الحزينة . أحسست أنى وحيد فى صحراء مترامية الأطراف ..

بدا لى العالم مليئاً بالأسئلة القاسية ، وبالألغاز . لماذا لم يحدثنى العجوز عن العلاقة بينه وبينها ؟ لماذا صمت عن تعلقى بها ـ لابد أنه لاحظه ـ وواصل نسج غزله حتى ألقى طراحته فى وقت لا أعرفه ، وفاز بعروس البحر ؟ هل حدثته عن مصارحتى بحبى له ؟ هل كان يعتبرنى غريماً ؟..

شغلنى ، صرف انتباهى ، بمتاعب الشيخوخة ، البناية المهددة بالانهيار ، اختلاف الرأى بتباعد السن . لم يحاول حتى مجرد الإشارة ، فأكف عن إلحاح النظرات ، أو أستكين إلى تلاشى التوقع ..

خمنت من نظرته المتأملة ، الصامتة ، فهمه وموافقته . فارق السن بينه وبينها ، بينه وبينى ، لم يطرح معنى مغايراً . علاقة الأب بابنته هى التى تصورتها ، بين رجل متقدم فى السن وفتاة تصغره بعشرات الأعوام ..

انطلق الخيال . توقعت أن يريحنى العجوز من عناء المصارحة ، ومن العقبات التى ربما تفرضها أسئلة غير متوقعة من أسرة الخواجة أندريا ؟

 قلت :

ـ هل يعرف الخواجة أندريا ؟

 ـ هذا شأنى ..

فى دهشة :

ـ تتزوجين دون أن تستشيرى أسرتك ؟ دون أن تخبريها ؟

 ـ أنا لست فتاة من بحرى ..

ضايقتنى العبارة ، وإن جاوزتها بالقول :

ـ أرجو أن تعيدى مناقشة قرارك ..

ـ ما قررته نفذته بالفعل . تزوجت الدكتور جارو ..

ـ سأتغاضى عن الإهانة لأنى أريد أن نفترق صديقين !

تباعدنا بالصمت ، وبالنظرات المحدقة فى الأرض ..

حاصرتنى الأسئلة : لماذا ؟ وكيف ؟ وهل تسافر مع العجوز بالفعل ، فلا تعود ؟..

بدت كل الكلمات فاقدة المعنى ، وسخيفة ، فلا يمكن النطق بها . أضفت صمتها الواجم إلى الجدار الزجاجى بيننا ..

داخلنى شعور بأنى سأحرم من رؤيتها إلى الأبد . لا أتصور أنى أستطيع فراقها . تصحبنى إلى باب الشقة . تودعنى ، ثم تغلق الباب . أظل فى ذاكرتها ـ ربما ـ لأعوام ، ثم تذوى الملامح ، تشحب ، تختفى . ما كان كأنه لم يكن . لقاءات العيادة ، ذكريات الدكتور جارو ، الجلوس على شاطئ البحر ، رفض فيصل مصيلحى ، ملاحظات الخواجة أندريا ، المناقشات ، المظاهرات ، الأسرار الصغيرة ، التردد على أمكنة المدينة : الشوارع الخالية ، والزحام ، واللافتات ، والأشجار ، والكورنيش ، والحدائق ، ورائحة البحر ، وزرقة السماء ، ورذاذ الأمواج ، وركوب الترام ، وباعة النواصى ، وظلال الشمس على الجدران ، وتلاقى الأذان فى المساجد القريبة .

هل تواتينى الجرأة لزيارة أسرتها ؟..

هبطت السلالم إلى الباب الخارجى ..

طالعنى شارع إسماعيل صبرى بحركته الهادئة . الشرفات الحجرية ذات المقرنصات والأشكال تمتد بطول الواجهة ، ضوء العصر يعلو البنايات ، فغطت التندات الشرفات المفتوحة . امتزج نداء الجرسون فى المقهى على ناصية الشارع بأذان العصر من مئذنة جامع على تمراز المجاور ..

عبرت تقاطع الشارع مع شارع فرنسا وشارع رأس التين . على ناصية شارع التتويج عربة حنطور ، راح السائق فى إغفاءة ، فوق كرسيه ، ودس الحصان رأسه فى مخلاة التبن . فى الناحية المقابلة عربة تين شوكى ، ينزع البائع بالسكين أغلفته الشوكية عن الثمار ، وعفريت الليل يضىء لمبات غاز الاستصباح

 مضيت فى اتجاه البحر ..

التفت ـ بتلقائية ـ ناحية شرفة الطابق الأول . كانت نورا تغلق ضلفتى الشرفة . تنبهت ـ بسخونة الشمس ـ إلى أنى أطلت الوقفة أمام قهوة فاروق . يتعالى من داخلها نداءات الجرسون ، وأصوات لاعبى الطاولة والكوتشينة ، وطرقعة القشاط على الطاولة ، وصوت عبد الوهاب يغنى للجندول . وثمة ماسح أحذية يرنو ـ بنظرة متوسلة ـ إلى أحذية الجالسين ، وهو يضرب على الصندوق بظهر الفرشاة ، وقط ـ أسفل الرصيف ـ قوّس ظهره فى مواجهة نباح كلب ..

البحر حصيرة . ألق الشمس يضوى على مياهه ، وثلاثة قوارب متناثرة ، ألقى أصحابها طراحاتهم ، وانتظروا الصيد . ثمة فى الرمال ، وبين الأحجار الصغيرة والحصى ، جحور للكابوريا ، وطحالب ، وبقايا أعشاب ، وقناديل ميتة . سحابات من الطيور الداكنة اللون ، تحلق فى السماء . تقترب ، تتباعد ، تعلو فى اتجاه الأفق ، ثم تعود ، ثم تنطلق . تشحب فى انطلاقها ، حتى تغيب تماماً ..