هل اعتبرت اعتزام جارو السفر نهاية لعلاقتنا ؟
ترددت على الأماكن التى اعتدنا اللقاء فيها . مكتبة البلدية ، مكتبة الجامعة ، ميدان محطة الرمل ، شاطئ ستانلى ، المسافة من الكورنيش بين تمثال الخديو إسماعيل ولسان السلسلة ، قلعة قايتباى ، ميدان أبو العباس . حتى بائع الصحف على ناصية أجزخانة جاليتى ، سألته عنها ..
قال فى ابتسامة تذكر :
ـ نعم .. البنت الخوجاية ..
وقلب شفته السفلى :
ـ لم أرها إلا معك ..
رنا فيصل مصيلحى ناحيتى بنظرة مشفقة :
ـ يبدو أن علينا تبادل النصائح ..
ثم هز سبابته فى وجهى :
ـ لا تكثر من الحركة هذه الأيام ..
ـ ماذا تقصد ؟
ـ المظاهرات والمؤتمرات الشعبية . نحن فى حرب ، وعين البوليس صاحية ، ويده لا ترحم !
***
كان الوقت عصراً ..
لمحت ضلفتى الشرفة المطلة على المينا الشرقية مفتوحتين . مضيت نحو البيت بعفوية . ضغطت على الجرس .
ـ نورا ..
كانت تعانى ارتباكاً ، والترحيب يغيب عن نظراتها ..
ـ ماذا حدث ؟
أدارت وجهها تتفادى نظرتى المتسائلة :
ـ لا شئ ..
سبقتنى إلى مقعد الدكتور جارو . أكرهت نفسى على الابتسام ، حتى لا تفطن إلى ما أعانيه ..
ـ تبدين متغيرة ..
وهى تهز الهواء براحتها :
ـ لعله الحر !
تظل ساكتة ، ثم تقول :
ـ قد يتأخر الدكتور عن العيادة ..
ـ هذه فرصة لنتبادل الحديث ..
واستطردت :
ـ لم أرك منذ أيام ..
بدا أنها تريد تفويت الملاحظة :
ـ أظن أن جارو لن يأتى اليوم ..
لاحظت نطقها اسمه دون لقب . أردفت :
ـ طلب منى أن أتحدث إليك ..
ـ ماذا تخفين ؟ ماذا تخفيان ؟
ـ تزوجت الدكتور ليلة أمس ..
ت .. ز .. و .. جـ .. ت ..
متى ، وكيف ، نشأت العلاقة ؟
كنت على ثقة أن نورا والعجوز من عالمين متباعدين ، يجهل أحدهما أفكار الآخر ومشاعره . لم ألحظ عاطفة ما بينها وبين العجوز : عبارة ، ضحكة ، تبدل نبرة الصوت ، لمسة الأصابع على ظهر اليد ، همسة فى الأذن ، إيماءة ، ابتسامة ذات مغزى . صمت مفاجئ مرتبك . أى تصرف يشى بعاطفة معلنة ، أو مستترة . حتى حواراتهما بالأرمنية غاب عنها انفعال العاطفة .
قلت وأنا أحاول السيطرة على مشاعرى من تأثير المفاجأة :
ـ لماذا لم يحدثنى الدكتور جارو بنفسه ؟ لماذا لم يبلغنى باعتزامه الرحيل ؟
قالت :
ـ هو يحبك كما تعلم !
الحب دعوى كاذبة . يختفى المجرم بعد ارتكاب جريمته . أدرك العجوز ما فعل ، فلجأ إلى الاختفاء . إن لم يكن هذا هو العداء ، فماذا يكون ؟
داخلنى إحساس أن كل شىء زائف ، وغير حقيقى . التفت البنايات بعاصفة من الغبار المصفر ، وحلقت الطيور السوداء فى أفق المينا الشرقية ، وتساقطت حجارة الكورنيش فى قلب البحر ، وواصل عفريت الليل سيره دون أن يضىء بعصاه فوانيس الطريق ، وتداخلت حلقة الذكر المترامية من على تمراز بما اختلطت كلماته ومعانيه ، وعانت صفارات البواخر فى الميناء الغربية حشرجة مقبضة ، وتحول ميدان الخمس فوانيس إلى سرادق للعزاء ، وهتفت المظاهرات للظلم ، وللشيطان ، وتمنيت لو أن الأتراك أفنوا الأرمن عن آخرهم ..
ـ أنت ؟!
وفى دهشة :
ـ لكنك ..
ـ أعترف أنى أحبك ..
عصتنى الكلمات ، تتشكل فى فمى ، لكننى أعجز عن نطقها :
ـ وأنت برهنت لى على حبك ..
شعرت أن العبارة أفلتت منى دون أن أتدبر المعنى . استطردت :
ـ ووافقت على زواجنا ..
ـ أن أحبك ، لا يعنى أن أتزوجك ..
وسرت ارتعاشة فى صوتها :
ـ الحب شئ والزواج شئ آخر ..
شردت فى معنى الكلمات ، ثم غمغمت كأنى أخاطب نفسى :
ـ أنا لا أفهمك ..
ـ الزواج استقرار . أريد أن أستقر فى أرمينية ..
استطردت فى ابتسامة متكلفة :
ـ تزوجته ليصحبنى إلى أرمينية ..
ـ لا أفهم .. هل زواجك منه شرط للسفر ؟
ـ جنسيتى مصرية ..
ثم وهى تضغط على الكلمات :
ـ هذه فرصتى الوحيدة لأرى أرمينية ..
ـ تتخلين عن كل شىء لرؤيتها ؟
ـ أذهب للإقامة لا للفرجة !
ـ ألن تستكملى إعداد الماجستير ؟
ـ ما أريده الآن أن أسافر إلى أرمينية .
ـ سافرى للسياحة .. للفسحة .. وعودى ..
ـ لا أهل للدكتور هناك ..
أضافت فى نبرة واثقة :
ـ يريدنى أن أكون أهله ..
ـ هذه مشاعر شفقة ..
ـ أطلت التفكير قبل أن أتخذ قرارى ..
ـ الرجل أكبر من أبيك ..
ـ أعرف ..
لم يعد لدىّ ما أقوله ، فسكت . رفضت أن أجتر الكلمات التى لا تعنى شيئاً فى الأغلب ..
حل صمت ، مفعم بالمعانى الحزينة . أحسست أنى وحيد فى صحراء مترامية الأطراف ..
بدا لى العالم مليئاً بالأسئلة القاسية ، وبالألغاز . لماذا لم يحدثنى العجوز عن العلاقة بينه وبينها ؟ لماذا صمت عن تعلقى بها ـ لابد أنه لاحظه ـ وواصل نسج غزله حتى ألقى طراحته فى وقت لا أعرفه ، وفاز بعروس البحر ؟ هل حدثته عن مصارحتى بحبى له ؟ هل كان يعتبرنى غريماً ؟..
شغلنى ، صرف انتباهى ، بمتاعب الشيخوخة ، البناية المهددة بالانهيار ، اختلاف الرأى بتباعد السن . لم يحاول حتى مجرد الإشارة ، فأكف عن إلحاح النظرات ، أو أستكين إلى تلاشى التوقع ..
خمنت من نظرته المتأملة ، الصامتة ، فهمه وموافقته . فارق السن بينه وبينها ، بينه وبينى ، لم يطرح معنى مغايراً . علاقة الأب بابنته هى التى تصورتها ، بين رجل متقدم فى السن وفتاة تصغره بعشرات الأعوام ..
انطلق الخيال . توقعت أن يريحنى العجوز من عناء المصارحة ، ومن العقبات التى ربما تفرضها أسئلة غير متوقعة من أسرة الخواجة أندريا ؟
قلت :
ـ هل يعرف الخواجة أندريا ؟
ـ هذا شأنى ..
فى دهشة :
ـ تتزوجين دون أن تستشيرى أسرتك ؟ دون أن تخبريها ؟
ـ أنا لست فتاة من بحرى ..
ضايقتنى العبارة ، وإن جاوزتها بالقول :
ـ أرجو أن تعيدى مناقشة قرارك ..
ـ ما قررته نفذته بالفعل . تزوجت الدكتور جارو ..
ـ سأتغاضى عن الإهانة لأنى أريد أن نفترق صديقين !
تباعدنا بالصمت ، وبالنظرات المحدقة فى الأرض ..
حاصرتنى الأسئلة : لماذا ؟ وكيف ؟ وهل تسافر مع العجوز بالفعل ، فلا تعود ؟..
بدت كل الكلمات فاقدة المعنى ، وسخيفة ، فلا يمكن النطق بها . أضفت صمتها الواجم إلى الجدار الزجاجى بيننا ..
داخلنى شعور بأنى سأحرم من رؤيتها إلى الأبد . لا أتصور أنى أستطيع فراقها . تصحبنى إلى باب الشقة . تودعنى ، ثم تغلق الباب . أظل فى ذاكرتها ـ ربما ـ لأعوام ، ثم تذوى الملامح ، تشحب ، تختفى . ما كان كأنه لم يكن . لقاءات العيادة ، ذكريات الدكتور جارو ، الجلوس على شاطئ البحر ، رفض فيصل مصيلحى ، ملاحظات الخواجة أندريا ، المناقشات ، المظاهرات ، الأسرار الصغيرة ، التردد على أمكنة المدينة : الشوارع الخالية ، والزحام ، واللافتات ، والأشجار ، والكورنيش ، والحدائق ، ورائحة البحر ، وزرقة السماء ، ورذاذ الأمواج ، وركوب الترام ، وباعة النواصى ، وظلال الشمس على الجدران ، وتلاقى الأذان فى المساجد القريبة .
هل تواتينى الجرأة لزيارة أسرتها ؟..
هبطت السلالم إلى الباب الخارجى ..
طالعنى شارع إسماعيل صبرى بحركته الهادئة . الشرفات الحجرية ذات المقرنصات والأشكال تمتد بطول الواجهة ، ضوء العصر يعلو البنايات ، فغطت التندات الشرفات المفتوحة . امتزج نداء الجرسون فى المقهى على ناصية الشارع بأذان العصر من مئذنة جامع على تمراز المجاور ..
عبرت تقاطع الشارع مع شارع فرنسا وشارع رأس التين . على ناصية شارع التتويج عربة حنطور ، راح السائق فى إغفاءة ، فوق كرسيه ، ودس الحصان رأسه فى مخلاة التبن . فى الناحية المقابلة عربة تين شوكى ، ينزع البائع بالسكين أغلفته الشوكية عن الثمار ، وعفريت الليل يضىء لمبات غاز الاستصباح
مضيت فى اتجاه البحر ..
التفت ـ بتلقائية ـ ناحية شرفة الطابق الأول . كانت نورا تغلق ضلفتى الشرفة . تنبهت ـ بسخونة الشمس ـ إلى أنى أطلت الوقفة أمام قهوة فاروق . يتعالى من داخلها نداءات الجرسون ، وأصوات لاعبى الطاولة والكوتشينة ، وطرقعة القشاط على الطاولة ، وصوت عبد الوهاب يغنى للجندول . وثمة ماسح أحذية يرنو ـ بنظرة متوسلة ـ إلى أحذية الجالسين ، وهو يضرب على الصندوق بظهر الفرشاة ، وقط ـ أسفل الرصيف ـ قوّس ظهره فى مواجهة نباح كلب ..
البحر حصيرة . ألق الشمس يضوى على مياهه ، وثلاثة قوارب متناثرة ، ألقى أصحابها طراحاتهم ، وانتظروا الصيد . ثمة فى الرمال ، وبين الأحجار الصغيرة والحصى ، جحور للكابوريا ، وطحالب ، وبقايا أعشاب ، وقناديل ميتة . سحابات من الطيور الداكنة اللون ، تحلق فى السماء . تقترب ، تتباعد ، تعلو فى اتجاه الأفق ، ثم تعود ، ثم تنطلق . تشحب فى انطلاقها ، حتى تغيب تماماً ..