جلست حنان بإعياء في إحدى الكراسي المنتشرة في الكافتيريا , كان احمد يتناول كوبا الليمون من البائع ثم استدار راجعاً وهو يتعثر.
ظل عقله يدور كالماكينة "كيف سيخبرها ؟.. من أين يبدأ ؟, كيف سيفهمها بان حسين لا يستطيع أن يحبها والأصعب من ذلك كيف سيشعرها بحبه القديم لها دون أن يجرح مشاعرها"
جلس أمامها وناولها كوب الليمون متحاشياً النظر إليها.
- حنان أود أن أخبرك بشي , لكن أجد الكلمات تهرب مني
نظرت إليه نظرة خاوية , وكانت تبدو ساهمة كأنها لم تستمع المقدمة التي بذل مجهودا جبارا في حياكتها ,تابع كلامه والآم يعتصره
- كلفني حسين بذلك , أود قوله حتى ينزاح عن كاهلي هذا العبء بدا الاهتمام على وجه حنان لدا سماعها اسم حسين ونظرت إلى عيني احمد التين طفح بهما الألم .
- ماذا قال لك حسين بخصوصي؟!
- قال انه جداً متأسف , انه لا يستطيع مبادلتك الشعور , كما انه مقدر حقيقة عواطفك نحوه , لكن هناك استحالة لمثل هذه العلاقة وهو عراقي أجنبي والسودانيون ولا يزوجون بناتهم بالأجانب .
مرت لحظات صمت ثقيلة , ثم جمع أطراف شجاعته وواصل حديثه
- كان يريد أن يقول لك ذلك نفسه , لكنه لا يتحمل رؤية الدموع خاصة في عيون فتاة جميلة مثلك .
ابتلع أحمد ريقه بصعوبة , لان الملاحظة الأخيرة من عنده هو واستمر مواصلاً حديثه
- أنت ألف من يتمناك , كما انه معجب جداً بأخلاقك وأسلوبك في التعامل معه ومع بقية الأصدقاء
ظل يتحدث بصورة آلية دون أن يرفع عينيه من كوب الليمون الذي كان يهتز أمامه , وهو ممسك به بأصابعه المرتعشة ثم أردف مواصلاً
- إن مثل هذا الكلام يجعلني في موقف لا احسد عليه , اخترت دور الشمعة , أضيء للآخرين واحرق نفسي .
لم يكد يصل إلى هذا الحد من الكلام حتى قطعت استرساله في الحديث
- لا ياحمد انك لم تحرق نفسك , بل زدت اشتعالا , أنت صديق مخلص له و أي امرأة تحب الرجل المخلص..
لم يصدق أذنيه ورفع عينيه لأول مرة عن الكوب الذي لازال يرتعش أمامه , ونظر إلى عينيها اللتان بللتهما الدموع , وقد بدا وجهها كأنها صحت من سبات عميق , وأردفت قائلة :
- إني اشعر الآن كأني أفقت من حلم جميل , ولكنه مجرد حلم , كان علي أن لا افقد واقعيتي التي اشتهرت بها , كان حبي لحسين مجرد انبهار
ظل احمد يستمع إليها كالمسحور وهي تردد
- لو لم تقل لي ذلك اليوم لقلته لك غدا , لطلبت منك الاعتذار لحسين
ظل كلام حنان يقع مباشرة في قلب احمد الذي ظل يخفق بشدة " هل من الممكن ان تتغير المعادلات بهذه السرعة والسهولة , حنان التي أحبها طيلة السنين تقول له ذلك الآن وهم على أعتاب التخرج " هم بأن يسألها إذا كانت هذه فعلاً حقيقية شعورها نحوه أم هي مجرد مجاملة اقتضتها الظروف , ولكنه طرد هذا الخواطر" هذا ليس أوانه " لابد أنها تعاني من صراع داخلي حاد الآن بعد أن تبددت أحلامها , نظر إليها في إشفاق , وقال مجاهداً بصعوبة رسم ابتسامة صغيرة
- ارجوا أن لا أكون أثقلت عليك بكلامي هذا
- لا أبداً , لقد أيقظتني من سبات عميق , إن الواقع مهما كان أفضل من الوهم , على كل حال كانت تجربة مفيدة لي لك وله , كانت مفيدة لنا جميعاً ..
قالت ذلك ونهضت ونهض احمد تاركين كوبا الليمون لم يمساه وتحركا خارجين الى الطريق ظلا يسيران صامتين ويردان تحيات الزملاء بطريقة آلية , إذا كان لا داعي للكلام , استنفذت اللحظات الماضية كل طاقتهما , خيل لكل منهما كأنهما يحملان أطنان من الحديد وعند باب مساكن الطالبات ودعها ولأول مرة يشعر بأنها صادقة في كل كلمة قالتها , وذلك بعد ان ودعته بنظرة حب كان مكتوم طيلة السنين , يحدث ذلك عندما تحب شخص ويظل هذا الحب محبوسا في ظلام اللاشعور , ولظروف معينة يحدث أن تطفح هذه المشاعر على السطح , حتى انك لا تصدق "هل هذا هو الشخص الذي كنت تعرفه من سنين أم انه شخص آخر جديد " جالت هذه الخواطر في مخيلته في طريقه إلى البركس , وارتسمت على وجهه ابتسامة رضا ..
وعند البوابة تذكر انه لا بد من زيارة حسين واطلاعه على نتيجة مقابلته لحنان , ويرى وقع ذلك على صديقه اللدود ، اعتلى الدرج قفزا نحو حجرة حسين , دفع باب الحجرة ليواجه الخواء والظلام , هزمه في قمة انتصاره يبدو انه كان لا يعير الأمر اهتماماً أم هناك ظروف قاهرة أدت لغيابه المفاجئ، انه حسين لا يخلف الميعاد ابداً ، تناول ورقه من على المنضدة التي اصطفت عليها بعض الكتب والمجلات الخاصة بحسين وسطر عليها الأتي
الأخ حسين
مساء الخير
انتهت الأسطورة بسلام ،نم سعيداً
أخوك احمد
استدار ،وانصرف في وقد عاد اليه سروره ثانيتاً وأخذا يصفر قافزا السلالم نازلاً وفي حجرته اندفع إلى فراشه لينام أول مرة خلال تاريخه الطويل بكامل ملابسه ..ولم ينعم بذلك كثيراً،سرعان ما شعر بان هناك يد تهزه لتوقظه، فتح عينيه و رأى صديقه ينظر إليه في توجس..
- ماذا بك .هل النوم بالملابس الرسمية أضحى موضة هذه الأيام
نهض احمد واستوى جالساً مفسحا مكاناً لحسين يجلس بجواره قال في اندفاع
ـ هل قرأت المذكرة التي تركتها لك في الحجرة
- أبدا لم اصعد بعد حضرت لتوي من السفارة.........
- السفارة !!
- الأمر يتعلق بالخدمة العسكرية
- الخدمة العسكرية !!
قالها احمد في دهشة
- نعم في العراق بعد الدراسة الجامعية نبقى عامين في الخدمة العسكرية
- إذا ستذهب إلى الجبهة ..هل تستطيع أن تقتل احد يا حسين؟
- لا تعيرني بذلك أنا لا أخشى الموت ، لكن أي حرب هذه ؟ هل تخاف أنت الموت ؟
- الموت .. أبداً ،رايته ماثلاً أمامي ..إن الجسد اللعين يحد من قدرة الروح على الانطلاق في عالم أرحب..ويقيدها في زمان ومكان ، إذا مات الإنسان .تحررت الروح من ثقل الجسد المادي ،ورحلت من عالم الأجساد الفانية إلى عالم الأرواح الخالدة..
نظر حسين في دهشة إلى صديقه
- من أين لك هذه الفلسفة العميقة ؟
- هذا جزء من ما علمه لنا الأستاذ الجليل طه .. كان يقول الموت زيادة علم، شاهدته بأم عيني يصعد إلى منصة الإعدام وعلى وجهه ابتسامة عريضة .... هل تستطيع مواجهة الموت وأنت تبتسم ؟
- لماذا تقتل السلطة العسكرية رجل كهذا ؟
- إن الحكومات المتسلطة لا تعرف التفريق بين التبر والتراب من يعارض يموت حتى لو كان بروفسور في الفيزياء النووية ومن يوالي ينعم بالسعادة ويتبوأ المناصب الحساسة حتى ولو كان لا يجيد غسل مؤخرته ..
- كان لنا عالم مثل هذا قتل أيضا بنفس الطريقة يدعي محمد باقر الصدر
- سمعت به وقرأت العديد من المؤلفات هذا الرجل الأسطورة ،كتاب "اقتصادنا"
- هناك تشابه في حياة الرجلين ،التمسك بالمبدأ حتى حافة القبر..
تنهد حسين ثم أردف ساهماً يجتر الذكريات قائلاً
- عندما اعدم الأمام الصدر، كنت صغير ولكن من بكاء والدتي المرير في ذلك اليوم وابتسامات والدي الساخرة عرفت هول الصدمة , اجتاح العنف مدينتي كربلاء والنجف واستشهد في ذلك اليوم العديد من أبناء الشيعة من مختلف الأعمار وكان من بين الشهداء خالي احمد اكبر أشقاء أمي ... مات الإمام ولم تمت الحقيقة , وظلت الأحزان تغمر قلوب أهلنا الشيعة ،يوما بعد يوم جرت محاولات عديدة انتقامية لاغتيال الرئيس , ضحى فيها أبناء الشيعة بأرواحهم .. كانت أمي عندما يستشهد احد أقرباؤنا بما في ذلك خالي احمد تبكي بحرقة فور سماعها النبأ وتظل تندب وتنوح لعدة أيام ثم تهدأ بعد ذلك وتردد أمام أبي بفخر واعتزاز " الحمد الله الذي شرفني بموتهم على ذلك النحو , لقد كنت أخشى عليهم الموت على فراش المرض كما يموت البعير لا نامت أعين الجبناء " كان ذلك يجعل أبي يتميز غيظاً ويصب جام غضبه علينا .
صمت كالمعتاد بعد حديثه المسترسل واخذ ينظر بشرود إلى صديقه الذي كان غارق في الاستماع والحزن يعتصره
- أنت يا صديقي تغمرني بالأحزان
- أنت صديقي وعليك حمل جزء من أحزاني على كاهلك
- اعذرني .. إني لا أقوى على ذلك .. نحن لم نتعرف على هذا النوع من القهر بعد..
- كفاكم الله شر نظام البعث ويستر عليكم وعضوا على ديمقراطيتكم هذه بالنواجذ
نهض حسين يود الانصراف بعد أن نظر إلى ساعته ولكنه تذكر شي ما
- لم تقل لي ياحمد ماذا فعلت مع حنان ؟
- ستجده مكتوب في المذكرة ... لا استطيع الإدلاء بأي أقوال في هذا الوقت المتأخر من الليل
- يجب علي الانصراف أكاد أموت من الإعياء
- أما أنا أكاد أموت من الكآبة ... تصبح على خير أيها الرفيق !!
- تصبح على خير أيها الكوز القذر
قال حسين ذلك ... وكما دأب دائماً بان ينعت صديقه بألقاب كيفما اقتضت الظروف أحياناً بالشيوعي المندس , وأحيانا بالكوز القذر ليثير أعصابه ..
- أخذت جرعات من السعادة تكفيني لاحتمالك من اليوم حتى يوم سفرك
كانت هذه آخر كلمات سمعها حسين وهو خارج ، بعد أن أغلق الباب خلفه ..
نهض احمد فوراً وبدا يغير ملابسه وذهنه يدور كالماكينة " إذا دقت ساعة الرحيل ..سيسافر حسين بصورة نهائية وان يلج الجمال في سم الخياط أسهل من خروج عراقي من العراق، لابد من سيعود يوما بأي كيفية , كانت جدة احمد تقول له دائما أن من يشرب من النيل مرة لابد أن يعود مرة أخرى ... طال الزمن أو قل وليشرب منه مرات ومرات" .