فصل رقم (11)

23 0 00

وفي مساء اليوم الأخير حضر والدي وحينها لم تسعني الفرحة ،كنت اجلس في القاعة الكبرى أمام التلفزيون كان يجلس بجواري بينما عمتي تجلس على الكرسي البعيد تشاهد المسلسل المصري بطريقتها المستغرقة التي تجعلها لا ترمش ولا تسمع حتى ولو سقطت قنبلة ذرية على بغداد , كان يجلس جواري في تخاذل دون أدنى شعور بالذنب ويلقي علي نظرة بين لحظة وأخرى بعينيه الوقحتين ثم ردد بصوت هامس ..

- سأنال منك أيها العقرب الصغير!!

نظرت إليه في احتقار جعله يرتعد ولكنه أردف

- ستكبر يوما .. وتعود إلينا بقدميك !

أجبته بعد إن جمعت كل قوتي وشجاعتي

- إذا عدت إلى هذا البيت يوماً , ساخصيك أيها العجوز الفاجر ...

باغته ردي , لأنه لم يتعود طيلة حياته السقيمة أن يشتمه احد ويظل على قيد الحياة , ونظر إلي في دهشة وقهقه ضاحكاً وردد في نبرة تهديد

- ستكبر يوما وتمارس السياسة وحتما سنلتقي في مكان أخر..

ارتعدت فرائضي من هذا الوعيد , ودوي صوت سيارة والدي في الخراج نهضت وتنفست الصعداء وودعت عمتي بقبلة سريعة وهي لا تزال مستغرقة في العشر الدقائق الأخيرة الحاسمة من المسلسل واتجهت إليه لأودعه , احتضنني بقوة وغمرني بقبلاته وهو يذرف دموعه الأبوية الزائفة ويغمغم بكلمات الوداع المؤثرة , التفت عمتي فجأة وهذه أول مرة تفعلها خلال جلوسها بالسنين أمام التلفزيون لتجد زوجها يخمد أنفاسي ، زجرته بصوتها الحاد زجرة واحدة أطلق سراحي وهو يرتعد خوفا , فقد كان يخشاها أكثر من الرئيس نفسه.


انطلقت كالعصفور إلى الخارج واندفعت إلى سيارة أبي بعد أن أوسعته تقبيلاً " كم أنت رحيم يا أبي " وجلست بجواره وانطلقت العربة تشق شوارع الحي الثري وقلبي يلعن كل تلك المنازل التي يسكنها المستنفذون من كبار رجالات الدولة وكان والدي في الطريق يعدد لي محاسن وأفضال زوج عمتي ومكانته الرفيعة في المجتمع العراقي كان بعبعاً يخيف الجميع وأنا استمع في صمت وعقلي يسترجع كل المواجع التي عايشتها في قصر زوج عمتي المخيف , ثم تليت على والدي التقرير الكامل عن وجودي السعيد في بيت عمتي مع زوجها الطيب ،كان التقرير أشبه بتلك التقرير التي ترفع للحكومة عاري من الصحة تماماً وخشيت أن افشي السر له ويعود بي مرة أخرى إلى حجرة الفئران المظلمة .


وفي البيت ارتميت في حضن أمي وبكيت بكاءاً مريراً ،بكيت على كل لحظة من لحظات الرعب التي عشتها في بيت عمتي مع زوجها السفاح .


"كما ترى يا عزيزي في بلادي عليك أن لا تتحدث في السياسية حتى لا تغتالك السلطة , ولا تحادث الغرباء حتى لا يقتلك معتوه وان تبكى بكاء مرا حتى لا تنفجر غيظاً , لقد أورثني زوج عمتي كل الأمراض النفسية المتعلقة بالجنس التي أعاني منها الآن وأصبحت كلما اقتربت من امرأة اشعر بشعور غريب وأشاهد النار أمامي , وكلما اقترب مني رجل تملكني رعب قاتل".. نظر إليه احمد في أسى وردد بصوته الثمل

- لا بد انك تعاني من برود جنسي نفسي المنشا كما يقول فرويد

حدق حسين في صديقه في سخط وردد

- كان يجب عليك أن تستعمل ألفاظ اقل وقعاً على نفسي أيها الوغد ..

ابتسم احمد في خبث وردد في نبرة طبيب نفسي

- هل ينتصب عضوك صباحاً عندما تمتلئ مثانتك بالبول ؟!!

نهض حسين ساخطاً وهو يحدق في صديقه والشرر يتطاير من عينيه المخمورتين


- انك تجعلني بعد كل اعتراف اشعر كأني عاري أمامك.. إذا تقمصت شخصية الطبيب النفسي مرة أخرى سانشب أظافري في عنقك واجعل الزبد يخرج من فمك وأمعاءك تخرج من مؤخرتك..

تنهد احمد في أسى ونظر إلى صديقه نظرة لا مبالاة , أنهار حسين جالساً مزعناً للهزيمة , أيقن إن ثورته هذه لا تخيف نملة وقد اعتادها صديقه وأصبحت لا تحرك شعرة من شعر رأسه , دفن وجهه بين يديه وغرق في تأملاته الكئيبة وعادت أنفاسه منتظمة كما كانت , وأطلق عقيرته بالغناء العراقي الجنائزي الحزين" ردتك تخلصني من أحزاني ..


ردتك وما ردت غيرك تاني" الذي يسبب لصديقه حالة حادة من الإحباط،ظل احمد ينظر إليه عبر الزجاجة التي غدت فارغة إلى ثلثاها على المنضدة التي تفصل بينهما بينما كان يعتصره الألم , كل محاولاته لتخليص صديقه من مستنقع الكآبة الذي يعيش فيه تعود بنتائج غير طيبة , صديقه يريده الاستماع إلى اعترافاته فقط من دون إبداء رأي, فجأة توقف حسين عن الغناء بعد أن هبط بمعنويات صديقه إلى ما دون الصفر حتى "أغاني هؤلاء العراقيين تدعو للانتحار من فرط سوداويتها".. تثأب حسين ونهض في تثاقل والتفت إلى صدقه متوعداً

- سأنام هذا اليوم هنا .. وعليك أن تبحث عن مكان أخر

نظر احمد إلى صديقه في حيرة وأذعن للأمر

- تفضل نام في يا أمير بغداد


اتجه حسين نحو الفراش وانطرح عليه حتى دون أن يخلع حذاءه وخرج احمد يترنح " تباً لهذه الخمور البلدية " كان يشعر بالدوار والغثيان حاول الاقتراب من الدرابزين , اختل توازنه وهوى من الطابق الرابع , كانت الأرض تقترب بسرعة رهيبة" اللعنة لقد اغتاله العراقي ".. انقطعت أنفاسه وهو يهوي في الفضاء ولحسن حظه كان هناك امتداد لمسجد أسفل المبنى مصنوع من قماش الخيام , سقط في منتصف السقف وتكرش القماش داخل المصلى، فر المصلون إلى الخارج مذعورين من هذا الجسم الغريب الذي سقط من السماء على سقف القماش , لم يجرؤ احد على الصعود لمعرفة ما حدث واستسلم احمد للنوم في هذا المكان الغريب حتى الصباح , استيقظ حسين أولاً واطل من الشرفة كادت تصعقه المفاجئة , شاهد صديقه متكوم على سقف المسجد .. ادهشه ان يختار هذا المكان الغريب للنوم دون خوف من الاخوان المسلمين المتوجسين اللذين يصلون الفجر ،ابتسم واتجه صوب الحمام .


ظلت هذه الذكريات المريرة تطوف بخاطر احمد والسيارة تنساب به في شوارع بغداد الهادئة , حتى انه لم يشعر بتوقف السارة أمام منزل أنيق , التفت السائق مخاطباً احمد بلهجته العراقية الودودة

- هذا هو العنوان !


نزل ونظر إلى المنزل الذي يلفه الهدوء وتحركت السيارة مبتعدة ,كان المنزل مكون من طابقين وله باب خارجي , ضغط احمد على الزر وهيأ نفسه لاستقبال صديقه بابتسامة عريضة وسمع وقع خطوات قادمة خلف الباب وانفتح الباب وأطلت منه طفلة في الخامسة من عمرها تقريباً يبدوا أنها ابنة أخت حسين لمياء , نظرت الطفلة إلى الزائر الغريب في فضول وأفسحت له الطريق ليدخل , دخل احمد القاعة الكبرى , كانت هناك امرأة في مقتبل العمر تقف عند الدرج الداخلي للسلم مجللة بالسواد , ولأول وهلة يفطن احمد للسواد الذي يخيم على المنزل , واخذ ينظر حوله، لمح صورة حسين المغطاة بالسواد والمعلقة على الجدار اقترب من الصورة , وعندها اغرورقت عيناه بالدموع وأنهار على الأريكة ينتحب في بكاء مكتوم ,هرع كل من في المنزل إليه، بدأت حركة غير عادية لمقدم الزائر الجديد و المألوف , لقد اخبرهم عنه حسين بكل شي عنه طيلة دراسته في السودان وأعطاهم أيضا صور احمد والأصدقاء.." إذا كانت هذه النهاية غير المتوقعة , استشهد حسين في الحرب على ما يبدو وبسام أيضا زوج شقيقته التي تقف عن كثب وقد التصقت بها ابنتها الصغيرة )

اقتربت أم حسين منه وربتت على كتفه برفق

- لا عليك يا ابني مات ولدي في ميدان الشرف

نظر إلى وجه أم حسين الطيب وتذكر كل اللحظات العصيبة التي عاشتها تلك المرأة العظيمة كما كان يحكي له حسين , ونظر إلى والد حسين كان هو أيضا في حالة يرثى لها من التعاسة , اقترب والد حسين وردد بصوت معدني وبلهجة عراقية حزينة :

- لا عليك يا بني .. انهض لنستريح في حجرة صديقك


والتفت إلى أمل وأمرها أن تحمل الحقيبة وتقوده إلى حجرة حسين , نهض احمد في إعياء وتحرك خلفها وابنتها التي حملت إكليل الزهور وانطلق بخطى مضطربة إلى غرفة حسين , هناك في الحجرة كان كل ما فيها يدل على أنها حجرة حسين , تشبه بحجرته في الجامعة , البوسترات الضخمة على الجدران الرسومات والزهور , المجلات والكتب التي كان حسين يحبها كثيرا متناثرة في كل مكان ،يبدوا أن أسرته آثرت أن تترك كل شي في مكانه تخليدا له , وانصرفت الفتاتان وأغلقتا الباب خلفهما وانكفأ على الفراش وراح في سبات عميق ..مرت الساعات تباعاً , استيقظ واخذ ينظر حوله لا يدري أين هو الآن , تمنى أن تكون جميع الأوقات السابقة مجرد كوابيس مزعجة , فتح عينيه عادت له الأشجان مرة أخرى .