كان صوت حذاؤه يقرع بلاط دهليز المكتبة بانتظام كبندول الساعة عندما سمع صوت هامس ينادي اسمه التفت حسين ووجد حنان منزوية عند احد الأركان , تسمر من مكانه " هل يا ترى اخبرها احمد أم ليس بعد ؟!" كان يخشى الوقوف معها وحدها تمنى في تلك اللحظة لو تنشق الأرض وتبلعه على أن يراه احمد معها , في هذا المكان المنزوي كان يبدو من هيئتها أن احمد لم يقابلها بعد , ظلت هذه الأفكار المضطربة تدور في ذهنه وهو يقترب منها ..
- مساء الخير حنان
- مساء النور , هل أنت خالي الليلة؟ , أم لديك مواعيد كالمعتاد !
قالت ذلك وهي تنظر إلى عينيه الشيء الذي أشعره بالدوار ،كم هي جميلة حنان , عندما حضر إلى السودان قبل أربعة أعوام كان رفاقه في العراق يرسلون له خطابات يعزونه بأنه فارق الجمال في العراق ولن يرى فتاة جميلة حتى يعود ولكنهم كانوا على خطا كبير, حنان هذه لهل سحر أخاذ ولها شخصية مسيطرة لا يمكن تجاهلها , كان الظلام الذي بدا يلف الكون ويلقي عليها ظلال من السحر , وبدا الطلاب يتدفقون لأداء صلاة المغرب، كانوا يندفعون في الدهليز , كان ينظر إليهم في توجس لعله يرى احمد بينهم , لاحظت انزعاجه وشروده , ووجهت له نظرة قاتلة من تلك التي لا يتحملها
- لماذا أنت منزعج هكذا ؟
- أبداً.. أبداً ولكن ,
هم بان يقول لها انه يقدر مشاعرها ولكنه شعر بالاستياء وأسعفته هي عندما رددت
- ارجوا أن تذهب معي إلى السينما اليوم , لأني لا استطيع الذهاب وحدي
اخذ يحملق في الأرض , أيقن انه حوصر تماما إذا رفض هذه المرة ستكون قاصمة للظهر , فانه لا يريد فقدها كصديقة , خطر له يكذب مرة واحدة خلال هذا اليوم، قال لها بعد تردد
- آسف لا استطيع لدي موعد مع أحمد
نظرت إليه في أسى
- لا داعي للكذب يا حسين , احمد ذهب إلى مدينة مدني منذ الأمس لظروف خاصة , كان يجب عليك أن تقول انك لا تريد الذهاب معي .
أغرقت عيناها بالدموع واستدارت للانصراف ودون وعي مد حسين يده ممسكاً بيدها ليوقفها , شعر بتيار كهربائي صعقه فا طلق يدها , وقال لها في نبرة مخنوقة
- أنا آسف جداً سأذهب معك إلى سينما حتى لو زحفت على الأرض زحفا
- لا دعك مني , لا أريد الذهاب معك , سأنتظر عودة أحمد غدا ونذهب سويا هل يناسبك ذلك ؟
أدرك مغزى كلامها وان اللبيب بالإشارة يفهمون وعرف انه لا توجد قوة في العالم سوف تغير رأيها مرة أخرى وتذهب معه إلى السينما , أذعن للهزيمة النكراء هذا كله من جراء الكذب , الذي لا يتقنه أبداً , أخذت تبتعد وهو واقف كالمذهول حتى غابت في آخر الدهليز , اندفع خلفها ولحسن حظه سمع صوتها وهي تقف عند حافة الدهليز مع صديقاتها , وقد عرف من سياق حديثهن بأنهن ينوين الذهاب إلى السينما , وجدها فرصة لرأب الصدع الذي أحدثته كذبته اللعينة , قرر دخول السينما ويلتقيها هناك ويجعل الأمر كأنه من باب الصدفة , تراجع في الدهليز والتمس طريقاً آخر يقود إلى السينما , كانت أنوار السينما تلوح من بعيد وقد احتشد جمهور غفير هذا اليوم , لم يكلف نفسه النظر إلى معرفة العرض وانطلق إلى داخل السينما وأظلمت القاعة حيث كان يعرض فيلم (الحدود) لدريد لحام وعندها عرف لماذا دعته حنان لمثل هذا الفلم , كان يحكي ضياع مواطن عربي في الحدود بين دولتين , حيث كان دريد لحام ينتقد الحدود الوهمية التي تفصل بين الدول العربية , كان فلماً هادفاً يهم الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج , اخطأ في فهم حنان فهي لا تريد الانفراد به كما ظن من أول وهلة ،مع العلم انه يعرف حبها له في كل حركة من حركاتها أو سكنة من سكناتها , عزم بعد انتهاء الفلم أن يبحث عنها في السينما ليعتذر منها مرة أخرى , استطاع أن يحدد موقعها في الظلام بسماع ضحكتها البريئة التي يعرفها جيداً , كانت تطلقها مع صديقاتها في المواقف الطريفة في الفلم .
انتهى العرض وسبحت القاعة في الأضواء , نهض والتفت إلى جهتها , لمحته وتسمرت في مكانها من شدة الدهشة , لم يتمالك نفسه وابتسم لها وانتظر أن ترد له ابتسامته بأحسن منها , ظلا يتبادلا النظرات وقت طويل حتى فطنت صديقاتها للأمر , وأخيراً ابتسمت له , تنفس الصعداء , أنها لم تعد غاضبة عليه , إذ لم ترد له الابتسامة لمات منتحرا تلك الليلة , وجال في خاطره صديقه احمد فسخط عليه ولعنه في سره لأنه سافر دون أن يخبره وأسقطه في هذا المأزق الذي لا يحسد عليه , خرج مع مواكب الخارجين ومن بعيد لوح لها وهي تبتعد مع صديقاتها , لوحت له في جزل ,أيقن تماماً أن ابتسامتها لم تكن وهماً , وتنفس الصعداء واستدار نحو البركس لينام سعيداً..