فصل رقم (1)

26 1 00

ظلت يداه ترتعشان وهو يحاول تشريح الضفدعة المصلوبة على اللوح أمامه كان يعلم انه لا بد من فتح بطن هذه الضفدعة والعبث بداخلها حتى يحصل على الدرجات اللازمة للنجاح في امتحان العملي لمادة علم الحيوان ولكن كان لا بد للإنسان أن يقتل مخلوقا ضعيفا كهذا حتى ينجح . كم اهلك طلاب العلوم من ضفادع وحشرات صغيرة منذ أن أنشئت جامعة الخرطوم


لا زالت يداه ترجفان وهو يحفر في قلب الضفدعة الذي كان يخفق تحت جلدها الأملس عبثا حاول أن يمسك بالملقط ويدفع به الجلد ثم يغرس المقص ويبدأ في شق صدرها كان جسده ينصب عرقا ويتجمع في شكل حبيبات على ......... ويتساقط على الأرض بدت خطوات الزمن ثقيلة اخذ صاحبنا يتلفت جهة اليمين وجهة اليسار .


وجد جميع الطلاب منهمكين في التشريح وقد تلوثت أصابعهم بالدماء وأغمض عينيه في يأس وقد امتثلت بالدموع لماذا هو بالذات لا يستطيع ذلك كانت أمه دائما تقول بأنه لا يستطيع أن يقتل نملة كما كان يغمى عليه عندما يذبح خروف العيد هل هذه رقة المشاعر أم انه إنسان غير سوي .


فتح عينيه واخذ ينظر إلى الزجاج الأمامي لمعمل الأحياء ورأى انعكاس شكله في الزجاج عينات زائفتان شعر منكوش وقد التفت خصلاته على شكل مليون علامة استفهام , فيما ظلت عيناه العسليتان تنظران إشفاق إلى شكله في الزجاج ، شعر بان هناك عينان تراقبانه التفت جهة اليسار وجد حنان جارته الطالبة السودانية منهمكة في تشريح الصرصور الذي تحول إلى أشلاء تحت يديها ثم التفت جهة اليمين .. التقت عيناه بالعينين التي كانت تراقبانه .


عينا احمد الطالب السوداني الذي يجلس على يمينه ابتسم له مشجعا حاول حسين العراقي أن يرد الابتسامة بمثلها لكنه عجز تماما ..وكيف يكون ذلك و لازالت ضفدعته سليمة الأعضاء ولازال قلبها ينبض وقد أوشك الزمن الرسمي لامتحان العملي على الانتهاء .

ثم أن هذا الطالب السوداني الذي يراقبه كانت نظراته تحمل معنى أعمق، كان يشعر أن هناك خيوط خفية تشده نحو هذا الطالب وهو لا يدري ما سببها هل لأنه طالب أجنبي وحسين عراقي الجنسية عندما حضر للدراسة في السودان كان يشعر بالاستيحاش ويفضل الجلوس وحيدا يقلب ذكرياته المريرة في العراق ولكنه كان يوقي في مرارة نفسه أن احمد الذي يجلس بجواره الآن إنسان غير عادي طيلة الأربعة الأعوام من الدراسة في فصل واحد وبكلية واحدة وفي مسكن واحد في المدينة الجامعية وفي غرف منفصلة ولم تتجاوز علاقتهما السلام والحديث في الشئون الأكاديمية .كانت تسكنه الفوضى حتى في مظهره...يبدوا كفيلسوف..


كان يعرف أن هناك علاقة حب خفية تربط بين احمد الذي يجلس على يمينه وحنان التي تجلس على يساره ومنذ لحظات كان احمد ينظر في اتجاه حنان وبما أن حسين يجلس بينهما فقد شعر بنظراته التي تمر من خلاله في طريقها إلى حنان .

علا صوت المشرف على الامتحان في القاعة معلنا انتهاء زمن الامتحان وبدا الطلاب الاستعداد للخروج وعلا ضجيج أدوات التشريح المعدنية واخذ الطلاب يعيدونها إلى أماكنها ، نهض في تثاقل و نظر إلى ضفدعته في أسى وقد تقوس فمها كأنها تبتسم له في عرفان لإبقائه على حياتها ، تحرك خارجا وسط جموع الطلاب وقد امتلأت عيناه بالدموع ،لابد انه سيرسب لا محالة ،لان للتشريح درجات تصل إلى أربعين في المائة من كل الامتحان أو عليه أن يبذل المستحيل ليعوض في الامتحان النظري . أن الرسوب في هذا الامتحان سوف يسبب له الآم لا تنتهي أن الجلوس لامتحان الملحق، سيؤخر سفره إلى العراق ،إلى أمه الحبيبة لأنها الوحيدة التي تربطه بالعراق ظلت هذه أفكار تدور في رأسه وهو يهبط درجات السلم في إعياء،تباً لهؤلاء السودانيين الم يجدوا مكان على الأرض يقيموا فيه امتحانهم , كان الامتحان في الطابق الثالث في معامل طلاب المستوى الأول ، أربعة أعوام بتمامها وهو يصعد ويهبط هذه السلالم اللعينة , شعر بيد تربت على كتفه، قطعت له حبل أفكاره ،التفت بغتة إذ هو احمد نفس جاره الغريب الذي سأله

- ماذا يا حسين .. الم تستطع تشريح الضفدعة ؟

- لم استطع مع كل أسف

قالها حسين في استسلام

- كنت أرقبك منذ البداية وأنت تجلس عاجزا .. هل نسيت الكيفية ؟

- أبدا أبدا لكني لم استطع فقط

هم أن يشرح له انه منذ صغره لا يستطيع فعل أشياء من هذا القبيل ولكنه طرد هذه الفكرة فشرحها سيطول ويتطلب منه أن يتحدث كثيرا إلى جاره الغريب، خاصة أن حنان قد تركت صديقاتها ونظرت في اتجاههما ويبدوا أنها ستنضم إليهما وقد كان ذلك

- ماذا بك يا حسين هل أنت مريض ؟

 سرى صوت حنان في أذنه كالجرس , كان صوتها يشعره بالدوار وردد قائلا

- أبدا انأ على أتم الصحة . لماذا السؤال ؟

- لاحظت أن ضفدعتك لم تمس وظلت تتمتع بصحة جيدة حتى نهاية الامتحان .

نفس السؤال هذا يدل على روح التعاطف التي يتمتع بها هذا الثنائي الغريب .. ومضت هذه الملاحظة في ذهنه ثم تلاشت عندما أردفت

- لا عليك يا صديقي .. عليك الاجتهاد في الجزء النظري

- أن شاء الله


قال حسين ذلك وفي خاطره ألف سؤال ،أحس بان هذا الثنائي يعرفه منذ مدة طويلة ولأول مرة يختفي في داخله الإحساس بالغربة الذي ينغص عليه حياته طيلة السنوات العجاف الماضية، كم تمنى أن يجلس معهما ويحكي لهما كل ما يدور في داخله من ذكريات مريرة، شخص كأحمد جدير بثقته ،كان في إمكانه أن يجلى سر الحزن الذي يخيم عليه بتلك الصورة ومتاعبه الخاصة وأشياء كثيرة تتعلق بماضيه المثقل بالإحزان . كم ود أن يشرح لهما بالتفصيل أسباب عجزه الكلي عن تشريح الضفدعة ،كان ذلك من جراء الرعب الذي يعيشه في البيت , ذلك الرعب الذي جعل شقيقه الأكبر احمد يهرب فرارا من عذاب أبيه وينضم إلى الجيش ليس اقتناعا بجدوى الحرب ولكن كالهروب من الرمضاء بالنار ،سقط أخيه في الأسر في معارك ديزفول عند بديات الحرب ،أثقلت الإحزان قلب أمهم بعد هروبه مباشرة ولم يهدا لها بال حتى اخبرهم مهدي جارهم ذو الأصول الإيرانية الذي يقيم في نفس الحي ،انه سمع أخيهم في إحدى الإذاعات الموجهة التي تبثها إيران لمساعدة الأسرى العراقيين في الاتصال بذويهم .


كان احمد يقريهم السلام ويطلب من أمهم الغفران أما شقيقتهم أمل فقد كانت الأوفر حظا تمنت ان يطرق بابها أول طالب الزواج وتتعلق به كما يتعلق الغريق بطوق النجاة ، كانت أتعسنا جميعا لان عقلية والدهم الممتدة إلى أيام الجاهلية الأولى تجعله يعاملها أسوا معاملة بما في ذلك وضعها في حجرة الفئران الرهيبة التي كانت تظن أنها للرجال فقط ،تفنن والدي بالتنكيل بها وإهدار فرصتها من حرمانها من نعمة التعليم الجامعي أكملت الثانوية وجلست في البيت تنتظر أن تدفن حية . وكان لها جزء صبرها حسن الختام، تقدم لها احد أقارب والدتي الذين نعتز بهم كثيرا ،بسام عقيد في سلاح الجو العراقي ،كان بسام زوج أختي ذلك النوع من الرجال ذو الخلق والدين ،تستطيع المرأة أن تقضى معه رحلة العمر محتفظة بكافة قواها العقلية ،كانت أرى السعادة ترفرف في منزلهم السعيد بمدينة البصرة ،عندما نقوم بزيارتهما انا وأخي في العديد من المناسبات السعيدة، عندما ولدت ابنتها الأولى لمياء، ظل بسام يستقبلنا بابتسامة الودودة , انه يحب أمي حبا جما وكانت هذه أخر وصايا والدته المحتضرة في الزمن الغابر، عندما كان يجلس جوار فراش مرضها الطويل أوصته أمه بان يتخذ والدتي أما له وان لا يرضى لها بديل ، نشا بسام يتيماً بعد وفاة أمه وتزوج والده من امرأة أخرى جعلته يعرف المعنى الحقيقي للتعاسة واكسبه ذلك الصبر الجميل ، ظل يأتي دائما لزيارتنا ويتحمل اهانات والدي الذي لا يعترف أبدا بأقرباء أمي ويعيش في اسر الايدولجية الشوفينية المخيمة على البلاد ، تحمل بسام ذلك إكراما لوالدتي التي رعته وحملت الأمانة على أكمل وجه , كانت تكفله بكل المصاريف التي يحتاجها للدراسة ونسبة لتفوقه العلمي نال منحه من الدولة لدراسة الطيران في الاتحاد السوفيتي ،أصبح من نسور الجو العراقيين ولم ينسى بسام ذلك الفضل لامي وقاد ذلك للزواج من شقيقتي حكمت ، لا يختلف اثنان أن بسام هذا ملاك وليس بشر وكان هذا حال شقيقتي حكمت وبقينا انا وأمي نعاني الأمرين في الجحيم المزدوج، جحيم والدي وجحيم بغداد ،أصبح كل الرعب الذي يكمن في داخلي وعدم الثقة الذي أعاني منه، ناجم عن المعاملة القاسية التي كان يعاملنا بها والدي عفا الله عنه ،مرت هذه الأفكار في عقله المجهد.. حتى انه لم يفطن إلى انه أصبح وحيدا يسير على رصيف شارع النيل تداعبه نسمات الشاطئ وحفيف وراق أشجار اللبخ التي تظلله وتحمي السائرين من لفحات شمس صيف الخرطوم القائظ في طريقه إلى مساكن الطلاب في البركس (( البركس : اسم يطلق على المدينة الجامعية ))