ظل حسين يبحث عن صديقه ثلاث أيام في الجامعة ليخبره بأنه نجح رغم انفه، عندما التقى بحنان تجلس وحيدة في إحدى المقاعد المنتشرة على الشارع الرئيسي الذي يشق الجامعة الممتد من كلية العلوم حتى كلية الآداب.
- صباح الخير يا حنان
أفاقت حنان من شرودها عندما رأته أمامها وبدا عليها الاضطراب، لم يسعفها صوتها لترد التحية الذي جلس بجوارها.. ما هذه المفاجئة السعيدة غير المتوقعة .. حسين قد اخذ ياستهويها في الآونة الأخيرة وهي لا تدري إذا كان حقيقة شعورها نحوه حب أم إعجاب.. اخذ يسيطر على تفكيرها تماما .
- تبدوا عليك السعادة, هل هناك أخبار سارة من العراق
- لا لقد ذهبت بعيدا.. فقط لقد نجحت كما تمنيتي أنت لي وسأكون بعد أسبوع في العراق
شعرت حنان كان خنجر انغرس في صدرها كان لابد أن تسير الأمور بهذه السرعة أيقنت أنها تحبه وأنها لم تهيئ نفسها لفقده بهذه السرعة ..
- اهكذا تريد الهروب من السودان وكان شي لم يكن !
قفز حسين كالملسوع ،لأول مرة يلاحظ نبرة الحب في صوتها الآسر .. كان هذا الشعور ينتابه كلما التقى بها .. ظل يشعر بها تحاصره بمشاعرها ويقع فريسة سهلة ، كما تسقط الذبابة في بيت العنكبوت ولا تجد لنفسها فكاكا .. تنهد وأراد تغير مجرى الحديث
- كنت ابحث عن احمد الم تريه في الاونه الأخيرة
لم يستطيع النظر إلى عينيها التين اكتسيا بخيبة الأمل وأدرك انه تراجع سريعا ،كان عليه ان ينسحب ببطء وسمعها ترد بصوت بارد كالحديد .
- احمد ذهب إلى بيت عمه منذ ثلاث أيام لديهم حفل زواج وقد ذهب ليعد العدة مع أبناء عمه، أتمنى أن يأخذك معه لحضور الحفل اليوم حتى ترى بنفسك تقاليد الزواج في السودان .
- تقاليد الزواج لا تختلف في البلاد العربية كثيرا اعتقد في الغالب الأعم لا يتمكن الإنسان من الزواج من الفتاة التي يحب
كان يقول ذلك في مرارة شديدة جعلتها تنظر إليه في إشفاق
- هل عانيت من تجربة مثل هذه ؟
نظر إليها في استسلام وردد في أسى
- الحديث ذو شجون ..أنها قصة طويلة أرجو أن يسعفك الصبر للاستماع ، أنها مأساة حبي الضائع،انها تجربة من تجارب الحب الطفولي التي تبقى في كهف الذاكرة كنقطة مضيئة ،كانت خلاسية، تنتمي إلى الأسر التابعية وهي اسر ترجع أصولها إلى إيران .. قدم جدها في أوائل هذا القرن إلى بغداد ونشط عمله التجاري وتزوج ابنه شريكه في التجارة من الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها وأنجب منها غلام واحد وهو والد الفتاة ،حمل هذا الغلام أجمل ما في أهل أبيه الإيرانيين فضيلة الصبر وأجمل ما في أهل أمه العراقيين وهي الصراحة التي لا حد لها، نشأت هذه الأسرة وغيرها من الأسر الإيرانية في الحي التي تقيم فيه وكانت لهم علاقات طيبة معنا أحيانا تمتد إلى المصاهرة وذلك التشابك القوي الذي يجعل الحرب بين العراق وإيران لا معنى لها .
كانت الفتاة تسمى شهرزاد لها جمال طفولي أخاذ ، لعبت بقلوبنا الصغيرة أنا وصديقي عصام وهي تسير بزيها المدرسي البسيط وضفائرها الثلاث التي كانت تتلوي على ظهرها بمشيتها التي تشبه مشية المهر في طريقها إلى المدرسة ، كانت هذه أول تجربة حب لي ،ذلك الحب الطفولي الذي يفجر في النفس أحاسيس غامضة تبعث إلى السعادة ،أحبها كل منا بطريقته دون أدنى غيرة.. هو بقصائده الطفولية الركيكة المستوحاة من كتاب الأناشيد المدرسي، بعد إجراء التعديلات اللازمة عليها وأنا برسوماتي الجميلة للطيور والزهور التي تملا حدائق دورنا .
كثيرا ما كنا نأتي ونلعب في منزلهم سويا وفي مرة حضر والدها ووجدنا نلعب تحت شجرة البرتقال ابتسم من على البعد نادانا أنا وعصام ،كانت هناك علبه طلاء ملقاة جواره ،حمل الرجل الفرشاة ووضع علامة بالطلاء على الحائط بارتفاع اقل من قامته قليلا وقال لنا " من يبلغ هذه العلامة أولا زوجته ابنتي شهر زاد" , تملكني رعب شديد ، كان عصام أطول مني قليلا ويبدو جسده النامي انه سيكون فارعا في الطول أما أنا فمستدير كالكرة كمل ترين..
أصابني ذلك بالسهاد ، لابد أنها ستكون من نصيب غريمي ،ظللت أسير مشدود القامة امام والدها وابحث وأنقب في الكتب الصفراء عن إكسير يجعل الرجل طويلا دون جدوى ووالدتي تنظر إلي في استغراب أسير أمامها على رؤوس أصابعي كلاعب السيرك ..
و مضت السنين تباعا ونسينا الشرط الذي وضعه مهدي وعندما دخلنا طور المراهقة مع هذه العلاقة الثلاثية الغريبة منعت من زيارتها منعا باتا واكتفيت أنا وصديقي بالنظر أليها صباح كل يوم و هي تخرج بسيارة والدها في طريقها إلى المدرسة الإعدادية، كانت تلوح لنا بأصابعها ونظل نراقب السيارة حتى تغيب عن الأنظار ويتنهد كلانا في أسى ونفترق كل إلى مدرسته وبدأنا ندخل مرحلة الرسائل الغرامية .كانت ترد ألينا الرسائل البريئة التي تعبر عن مشاعرها الجياشة .
لاحظت أنها تصنع نسختين من مسودة واحدة وتذيلها باسم كل منا ، حتى أنها أخطأت و أرسلت لي رسالة عصام و استلم عصام رسالتي، ضحكنا ذلك اليوم حتى كاد يغمى علينا وفي ذات مرة دهمني حلم مزعج شاهدتها تتجول فيه مع عصام في حدائق بغداد ، استيقظت خائفا و بدأت نار الغيرة تشتعل في قلبي و انطلقت المؤامرات الشيطانية تعشش في راسي كتبت في الصباح رسالة إلى عصام بخط يدها و إنا بارع في تقليد الخطوط ،كانت الرسالة مؤثرة، بذلت فيها مجهود جبار حتى تكون بمثابة إسدال ستار مشرف لعلاقتها بعصام و دعوت الله أن يوفقه في المرات القادمة ونوهت في الرسالة إلى حبها لي ذلك الحب الذي ملك حواسها ولم تجد منه فكاكا طويت الرسالة ووضعتها في المكان المعتاد عند أم حكيم صاحبة البقالة في الجوار ..
وانتظرت يومين لأرى مفعول الرسالة و فعلا بدأت تباشير النتائج الطيبة ، مرض عصام بالحمى ولزم الفراش و كان من الواجب زيارته حتى استمتع بحلاوة انتصاري ،وجدته مستلقي في الفراش ينتفض من الحمى و أمه تولول وتردد أن ابنها أصيب بداء السحائي الذي كان منتشر وبصوره وبائية في تلك الأيام ، وكنت ابتسم من أعماق نفسي إذ لا تعدو تلك الأعراض سوى أعراض الحب ، إن خروج الحب من الجسد أشبه بخروج الروح من الجسد له سكرات مؤلمة ،ظل عصام ينظر إلي بعينيه الذابلتين التين بللتهما الدموع و أنا أتكلف الجزع عليه حتى لا تفضح العينان ما القلب كاتم وشفي عصام بعد عدة أيام وأذعن للأمر الواقع وصرت وحدي أبادلها الرسائل و الرسومات الجميلة للعصافير و الزهور و ذهبت أشعار عصام إلى مزبلة التاريخ وبما أن دوام الحال من المحال وعلى الباغي تدور الدوائر
في ذلك اليوم الأغبر أخذت الحرب بين العراق و إيران منعطفا خطيرا وقامت السلطات العراقية بعملية تهجير قسري لكل الأسر التي لها صلة بإيران منذ عهد أبو مسلم الخراساني .. هالني ذلك وانأ أرى الشاحنات العسكرية تقوم بنقل الأسر المنكوبة إلى الحدود الإيرانية و تلفظهم هناك دون رحمة ، كانت الشاحنة تقف أمام منزلهم وانأ أرى من خلف ضباب الدموع الغزيرة و قلبي الملتاع المنظر المشين.. جلس والداها في مؤخرة الشاحنة كسيرين ينظران الأرض، حز في نفسي أن أرى مهدي الذي كان يسير في شوارع بغداد مرفوع الرأس يمنح ابتسامته الرائعة للغادي والرائح دون تكلف ومحبته تغزو القلوب ..
يجلس مقهورا على الشاحنة ، كانت شهرزاد تنظر ألي في ضياع ليس له حدود ،كنت أقف جوار والدتي التي خرجت لترى عملية التهجير البشعة ، نظرت إلى والدتي التي بلل الدمع وجهها وتساءلت "لماذا يأخذونهم بتلك الطريقة ؟. إن أسرة شهرزاد تملك من الثراء ما يمكنها من السفر إلى طهران بالطائرة على أفخم الخطوط الجوية العالمية" . ردت والدتي وهي تتمتم في لوعة و عيناها على أم شهرزاد المتشحة بالسواد التي آثرت السفر مع زوجها الإيراني حتى و لو إلى الاسكيمو .."أنها الطريقة الوحيدة لإذلالهم".
تحركت ارتال السيارات وأخلت الحي الذي خيم عليه صمت القبور وغدت الدور الخالية من ساكنيها مرتعا للعصافير و القطط والكلاب الضالة .. جلست مريضا انتفض من الحمى والحب وأهذي شهرا كاملا لا اعرف ليل أو نهار و شفيت بعد مدة و قمت برسم لوحة مأساوية لطائر سقط ميتا تحت أغصان شجرة البرتقال المتيبسة في منزلهم الخالي وعلامة الطلاء لازالت على الجدار ،كنت أنا ذلك الطائر القتيل وعلقت اللوحة في جدار حجرتي بجانب صور الرئيس الكثيرة التي تملأ الجدار ولم ينتهي الأمر عند هذا الحد ، وفي إحدى أيام طوافنا على أطلال المنزل الخالي ونحن نجتر ذكريات الحب و العذاب وتحت ضغط مشاعري الملتاعة اعترفت لصديقي بالرسالة المزيفة ، لم يكترث في بادئ الأمر ألجمته المفاجئة .
وبعدها انقض علي و دارت بيننا معركة شرسة قاتل فيها عصام بضراوة حبه الذي انطفأ بسبب تلك الرسالة المزعومة ، أصابني بجروح عديدة وكسر في إصبعي و بعد أن أوسعني ضربا و رفسا وسقطت مهزوما مضرجا بالدماء، ركع جواري وطبع على جبيني قبلة أخوية وردد ساخرا
- ألف مبروك يا عريس بغداد.
و انصرف يجر قدميه جرا دون أدنى التفات . صرخت في أعقابه وان أقاوم البكاء في نشاط
- اللعنة عليك أيها المعيدي* المتوحش
رد علي بضحكة مجلجلة جعلت الدم يغلي في عروقي و الدموع تطفر من عيني .. أنا المهزوم دائما في المعارك و نهضت احمل رفات قلبي المنفطر عائدا إلى المنزل وأصبحت بعد ذلك مجرد ذكرى شهرزاد أو تصوري لها تجلس مع زوجها الإيراني في طهران تبعث في نفسي الكآبة والأسى العميق، كانت تلك أول تجربة حب وأخر تجربة حب عشتها حتى ألان
أفاقت حنان من شرودها الطويل وهي تستمع بكل حواسها لتجربة حسين الذي كان يحكيها في أسى عميق .. و نظرت إلى ساعتها ورددت
- ارجوا المعذرة يا حسين . لدي موعد .. كنت أود البقاء معك
نهض ومد يده ليودعها و ما إن احتوى أناملها الرقيقة بين أصابعه حتى شعر بان قلبه سوف يقفز من مكانه ، سحب يده وودعته بابتسامة ساحرة ظلت عالقة في ذهنه ذلك اليوم حتى التقى بأحمد أخيرا في قاعة الطعام الكبرى ، لم يشاء حسين أن يخبر صديقه بلقائه مع حنان بل عاتب صديقه على غيابه الطويل
- إذا هربت إلى أم درمان.. هل هذه خيانة منك ؟
- لم استطع العثور عليك لأخبرك بمكاني . تركت لك مذكرة في الغرفة الم تجدها .
- لا لم اذهب إلى الحجرة منذ مدة . أخبرتني حنان..
انزلق الاسم على لسانه مغالبه ولم يفطن لأي تغير في وجه صديقه .. يبدو أن هواجسه كانت أكثر مما يجب . إن صديقه احمد لا يغار منه..ولن تتكرر مأساة عصام هنا أيضا..
- حفل الزواج اليوم . ستكون ليلة من ألف ليلة وليلة كلفنا الإعداد لها أكثر من ثلاثة أيام بلياليها سنذهب سويا
- أتمنى ذلك.. بل نعتبرها حفل النجاح والعودة إلى الوطن
- هل نجحت .. مبروك .. هيا نعد أنفسنا فالوقت يمر سريعا . ونهض الصديقان و خرجا من القاعة و اتجه كل منهما غرفته..