فصل رقم (12)

23 0 00

كان الليل هادئ والقمر بازغ ، إذا لقد نام كثيراً , بدأت تمطر في الخارج والبرق يلقي ظلال موحشة داخل الحجرة المظلمة ،بدأت الريح تعبث بالستائر ،شعر كأن هناك روح شخص ما هائمة في الحجرة لابد أن تكون هذه روح صديقه جاءت لتزوره , ابتسم في الفراغ أمامه , خيل له انه سمع همست يحيه , شعر بان كل محتويات الحجرة تحيه وتبتسم له ولأول مرة شعر بذلك السلام الداخلي العميق الذي اجتاح كيانه سكنت نفسه وامتلأت بالرضا , ظل في تلك الحالة ولم يقطعها إلا صوت خافت لصرير كرسي متحرك يسير في الدهليز وانفتح باب الحجرة , دخل شاب عراقي وسيم موفور الصحة جالساً في كرسي ذو عجلات " رباه لا بد ان يكون هذا عصام!! ..ضحية اخرى من ضحايا الحرب ".. عصام الطبيب وبطل الرياضة في المدرسة كما كان يقول حسين

- مساء الخير

- مساء النور

رد في أسى وهو ينظر إلى الشاب الذي يجلس أمامه وقد تدلى وسام على صدره

- أنا عصام دكتور في السلاح الطبي العراقي , اخبرني والد حسين بقدومك , حضرت لا تعرف عليك ،لقد اخبرني حسين عنك كثيراً ..

- أنا سعيد بمعرفتك يا دكتور عصام ويبدوا أننا سنقضي أوقات طيبة حقاً

انفتح الباب ودخل والد حسين وبقية الأسرة والتفوا حول فراش أحمد

- هل تشعر بتحسن الآن ؟

قال والد حسين ذلك بصوته العميق وهو ينظر إلى احمد في إشفاق

- نعم يبدوا أن اثر الصدمة انحسر ....لم أتوقع ذلك لقد جئت لأمر مختلف جدا

- أنها إرادة الله .... والخير فيما اختار الله..

قال والد حسين ذلك والتفت إلى بقية الأسرة :

- هيا بنا إلى قاعة الطعام ارجوا أن تعد نفسك للعشاء معنا .....


دفعت امل كرسي عصام وخرجت ومن خلفها بقية الأسرة، نهض وغير ملابسه , ونزل لتناول الطعام مع بقية الأسرة , في الطابق الأرضي كان العشاء مهيباً حيث اخذ الجميع يتناولون طعامهم في صمت ،حانت من احمد التفاته إلى صورة حسين على الحائط خيل له انه يبتسم له فبادله الابتسامة , ثم انهمك يأكل في صمت وبعد العشاء المهيب رجع احمد إلى الحجرة وجلس على حافة الفراش وأخذ يحملق أمامه وأخيرا استلقى لينام مرة أخرى نوما هادئاً حتى الصباح..


كانت الحدائق مبهجة في ذلك الصباح الساحر , واحمد يدفع الكرسي ذو عجلات أمامه لدكتور عصام ،هذا الشاب غير عادي كما كان يخبره حسين فهو يحب الشعر والقصص وقلبه مفعم بهموم العالم , دفع الكرسي تحت ظلال شجرة وجلس قبالته عصام يتسامران

- في ذلك اليوم كان الظلام دامساً عندما حضرنا إلى الموقع الذي كان لا يزال يتصاعد منه الدخان وبدأنا في أجلاء الجرحى والقتلى، وجدته في اللحظات الأخيرة , حتى انه لم يعرفني كان يهذي بكلمات غربية , ظل يجاهد الابتسام , وعلى ما اذكر انه ذكر اسمك كثيراً

- لا استطيع أن اشرح لك لماذا كان يحاول الابتسام فهذه قصة طويلة وتحدي بيننا..

- وعند تفتيش ملابسه عثرت على وريقة صغيرة لا زلت احتفظ بها إلى الآن .


قال عصام ذلك وادخل يده في جيب سترته العسكرية واخرج ورقة وناولها إلى احمد الذي اختطفها في شوق وفتحها :

عزيزي أحمد

أن الكلمة عاجزة عن التعبير عن المعاني الكبيرة في الحياة لأنها لبست سوى حروف اقترنت بأشياء تعارف عليها الناس وعلى تسميتها , ولكن تبقى المشاعر الممتدة من الفرات إلى النيل هي اللغة الحقيقية والفعل الصادق الذي يجلس في النفس فيوقد من الروح توهجها ورونقها ونورها وبهجتها فتهيم في الوجود السرمدي , ويبقى الاستشهاد في سبيل الوطن أسمى غاية في الوجود وعلى الأرض السلام..

أخوك حسين

25 /1/1987

أغرقت عينا احمد بالدموع , عندما قرأ آخر رسائل صديقه التي لم تصله ثم نظر إلى عصام في امتنان :

- أسديت لي معروفاً عظيماً , يرحمك الله يا حسين الطيب

ابتسم عصام في رفق ثم غطى وجهه بالحزن عندما طاف بعقله خاطر ويبدو كأنه نساه

- كنت في الماضي ضربته يوما ضربا مبرحاً حتى سالت منه الدماء بسبب حب طائش تورطنا فيه سويا

- أحقا ضربت حسين ؟


- نعم .. كان ذلك أسوا عمل قمت به في حياتي , ذكره لي وهو يحتضر بين يدي أترى ماذا قال؟!

تنهد احمد في أسى واستعد لمزيد من الآلام وأردف عصام

- قال لي بالحرف الواحد " لم أذق طعم النوم ليليتها من جراء الآلام المبرحة الذي كانت تمزق أصبعي المكسور وجسدي المرضوض وقلبي المفطور"..


تنهد عصام وقد امتلأت عيناه بالدموع وردد

- احتضنته بقوة وبللت وجهه بدموع النوم , وطبعت على جبينه قبلة أخوية صادقة وقلت

"اغفر لي يا شهيد يا بغداد "نظر إلي بعينيه الشاخصتين وهمس وصوته يتردد في الأبدية " غفرت لك يا زعيم المعدان* "..

تنهد عصام في أسى وأطلق زفرة حارة


- وبعد ذلك بشهرين , كنا نجلي الجرحى في منطقة أخرى في طريق العودة انفجر لغم في سيارة الإسعاف التي كنت بداخلها لم اشعر بعدها بشيء إلا وأنا في المستشفى العسكري وقد دخلت شظية في عمودي الفقري , وأصبحت مقعداً كما ترى

- يا لهذه الحرب القذرة !!

- أصبحت بلادنا مسرحا لتجارب الدول الكبرى والغريب في الأمر أن الدول التي تدعي أنها متقدمة تصنع الأسلحة وتتبع أساليب خسيسة لافتعال الحروب في دول العالم الثالث لتبيعه

قال عصام ذلك في حنق وهو يحدق بعيداً

- أنها لعبة الدول الكبرى .. كان الله في عون الجميع

تنهد عصام في أسى وهو يواصل ذكريات الحرب

- لازلت اذكر جثث هؤلاء التعساء التي كانت تغطي المستنقعات بعد تدمير الهجوم الإيراني الأخير

- شيء مؤسف حقاً

- نعم , إنهم قوم طيبون،لولا ولاية الفقيه المتزمتة لديهم والجمود العقائدي البعثي القومي لدينا،لما نشبت الحرب..

- هذه الايدولجيات أدخلت المجتمعات في موات سريري وأخرت الديمقراطية كصيرورة وحتمية تاريخية..

- لن تأتي الديمقراطية أصلاً والتي فيها خلاصنا ما لم تؤسس ثقافة المجتمع المدني..

- نعم الدولة المدنية في مستوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وليس التصورات التي تعج بها أدمغة نخبنا المتكلسة

- لقد عرف أبو العلاء المعري ثقافة المجتمع المدني قبل أن يكتشف كريستوفر كولومبس أمريكا..

- تعني قوله: إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا للرؤساء كالذي يقوم بجمع الزنج في البصرة والقرمطي بالإحساء

- هذه الحرب الدائرة ألان بين نظامين وليس بين شعبين ولا أكن أي عداوة للشعب الإيراني وهم أيضا كذلك..

- هل تعاملت مع جرحى إيرانيين؟

- نعم..وكان ذلك في إحدى المرات التي كنا في الجبهة أيام المعارك العنيفة , وجدت احدهم كان مسجى عن كثب , ضخم الجثة بصورة غير عادية أحشاؤه ممزقة شفتاه ترددان شي بالغة الفارسية , ركعت بجواره، رفعت رأسه بين يدي نظر ألي في أسى , كانت نظراته خالية من أي بادرة حقد أو كراهية , نظر إلى بعينيه المحتضرين ووجه الشاحب ،كان في الرمق الأخير , ظل يردد بلغته الفارسية كلمات فهمت معها انه يدعو لنفسه ولي بالرحمة , أشار بيده المرتعشة إلى احد جيوب سترته العسكرية ،فهمت انه يريد أن اخرج شي من جيبه , أدخلت يدي في جيبه، أخرجت مصحف صغير ثم مفكرة وعندما راني احمل المفكرة بين يدي ابتسم بصعوبة همس لي بلغة عربية مكسرة انه يريد أن يدفن في النجف الأعظم , وفاضت روحه , نظرت إلى وجهه وقد حللت به رهبة الموت.


وبحكم عملي في إجلاء الجرحى والقتلى عايشت كثير من حالات الاحتضار من الجانبين الإيراني والعراقي ولكن كانت هذه من الحالات التي مزقت قلبي عولت على نفسي منذ اللحظة أن أنفذ له وصيته ، حملته ووضعته بين الجرحى رغم خطورة هذا العمل تم نقلنا إلى البصرة وهناك قمت بتهريب الجثمان من المستشفى العسكري بسيارة نقل بعملية تكاد تكون بوليسية وصلت ليلاً إلى النجف حيث واريته الثرى هناك وبعدها بحثت عن عنوانه في المفكرة وبعثت برسالة إلى أسرته تفيد بوفاته , جاءني الرد متأخراً بعض الشيء من شقيق له يدعى مرتضى يقيم في لندن، كانت رسائله التي توالت تباعاً مؤثرة , حكى لي قصة فرزاد الجندي الإيراني الذي احتضر بين يدي , قال لي :- أن فرزاد كان الابن الأثير لدا والدي عندما ولد في عيد النيروز ،حمله والدي إلى العرافة قالت له العرافة " ان هذا الغلام لن يعمر طويلاً فهو ليس من أهل هذه الدار"..


انزعج أبي من ذلك كثيرا , كان يخاف عليه من خطر النسيم , نشا محبوبا بين جميع سكان القرية حتى بلغ مبلغ الرجال , كان النساء يتمنينه زوج لبناتهن , كان الرجال يتأملون قامته الفارعة القوي بإعجاب ويتمنون لو أنجبوا ابن مثله , كان ذلك يحز في نفس أبي كثيراً ،ظل يخشى عليه من الحسد والعين ومضت السنين تباعاً , وفي ذلك الصباح استيقظ أبي منزعجاً وقال " إن فرزاد ليس عليه أن ذهب إلى المدرسة اليوم " وقد نوه أبي لذلك كثيراً ولكننا نسينا وصية والدنا وكنا من الظالمين , فقد ذهب إلى المدرسة وحضر مسئولو التجنيد وسجل اسمه مع متطوعين الحرب دون أن ندري.


وفي اليوم التالي , ترك لنا رسالة وقبل والدي ووالدتي بصورة أثارت شكوك أبي وخرج مع مواكب المتطوعين في طريقه إلى الجبهة , وسط هتافات أهل القرية , واستشهد هناك كما تعلم في اليوم الذي مات فيه شعرنا بذلك , حل البؤس بالقرية اجتاحت الأعاصير والفيضانات كل شي كأنما الطبيعة نفسها فجعت فيه , لم يجف الدمع عن عيون أبي قط ،تمزق قلبه عليه ،كان يحبه حبا جما , يرى فيه شبابه ورجولته في الزمن الغابر , كان والدي يردد" أن فرزاد أعاد أمجاد أسلافه الأشداء" , وثكلته نساء القرية أيضا..


وفي الختام لا يسعني إلا أن اعبر لك عن امتناني بالدور الإنساني الذي قمت به , لقد سر والدي كثيراً ودعا لك بالخير والعافية حتى لحق به بعد شهور ،مات حزناً عليه ، الذي أنطفا كالشمعة في حرب ليس لها معنى ..

عندما فرغ عصام من سرد قصة فرزاد حفرت جروح عميقة في نفس أحمد , حتى تلك اللحظة كان يعايش الجانب العراقي للمأساة , أما اليوم فقد اطلع على الجانب الإيراني الذي لا يقل مأساوية عن فقدان صديقه العزيز حسين , نهض في تثاقل ودفع الكرسي المتحرك عبر الحديقة في الطريق إلى البيت مع الأفق الغارب ،تذكر احمد أمراً أثار فضوله

- ما الذي غير والد حسين هكذا؟!

- هل أخبرك حسين عن أبيه؟

- نعم..ولكني أرى فيه ألان هدوء حزين..

- اعتقل عن طريق وشاية من مخبر،في أمر يتعلق بالبضاعة كما تعلم أن له متجر في السوق،لمدة أشهر ذاق فيها جحيم النظام الذي كان يؤيده حتى الثمالة، كادو أن يقطعوا يده مع آخرين،لو لم ينقذه زوج أخته المتنفذ في المخابرات ومنذ خروجه من المعتقل وهو هكذا..مكسور الجناح..


تنهد احمد وحدق في الأفق الذي يجلله الشفق الدامي , كانت هناك أسراب من الطيور المهاجرة على الأفق تطلق أصواتها التي تشبه بالنواح كأنما تبكي على حال أهل ارض السواد .