فصل (24)

18 0 00

رفت ابتسامة تلقائية على شفتيه وهو يتأمل واجهة سينما على بابا : الرجال يفضلون الشقراوات ، لص بغداد ، إسماعيل يس فى الجيش .

خلف السينما وراءه ، واتجه ناحية اليسار . بادله رواد المقهى ـ على الناصية ـ نظرات معرفة . كان قد تكرر مرافقته لسيلفى فى زياراتها المتباعدة إلى الخالة إيفون . مضى ناحية باب البيت الخشبى المتآكل . وجد لجسده منفذا بين الأجولة المرصوصة على جانبى المدخل الضيق ، وروائح التراب والرطوبة والشواء والطبيخ والعطن .

تلمست قدماه السلمة الأولى ..

حدجته الخالة إيفون بنظرة متأملة ، تستشف ما بداخله :

ـ تسأل عن سيلفى ؟

حرك رأسه دلالة الموافقة .

ـ ألم تزر دومينيك وعياد ؟

ـ لا أعرف البيت .

وهى تنظر فى عينيه :

ـ سيلفى دخلت الدير ..

أضافت للدهشة المرتسمة على وجهه :

ـ أثّر فيها غيابك عنها ..

حدثته عن الأيام الأخيرة قبل أن تلجأ سيلفى إلى الدير ، تعتزل فيه .

قالت فى نبرة باردة :

ـ بدا القرار صعباً .. بدا القرار الوحيد . تفر مما أوقعت فيه نفسها من مشكلات .

وزمت شفتيها ، فبدت الكرمشة حول الفم :

ـ قد يغفر الله ذنوبنا ، لكن الناس يرفضون المغفرة .

وأدارت وجهها نحو النافذة :

ـ أزمعت سيلفى أن تلجأ إلى الدير .

حاول أن يقول شيئاً ، يسأل ، أو يوضح ، أو يعترض . شعر كأنه فقد القدرة على مجرد تحريك شفتيه . ظلتا ترتعشان ، دون أن تنفرجا . كأن شيئاً ما قد انتزع من داخله . تحركت مشاعره بما لا يقوى على التعبير عنه . لا يدرى حقيقة الشعور الذى تملكه .

أغمض عينيه ، كأنه لا يريد أن يرى ما حوله .

تنحنحت لتزيل احتباس صوتها :

ـ لم أفلح فى إثنائها عما اعتزمت فعله .

همست بالسؤال ، دون أن تلتفت إليه :

ـ ألم تر ـ ذات يوم ـ ما بداخل حقيبتها ؟

اخترقها بنظرة مستاءة :

ـ ما شأنى بحقيبتها ؟!

وأحاط رأسه بيديه كمن يعجز عن التصرف :

ـ لماذا ؟

وهى تضغط على الكلمات :

ـ إنها تحرص على وضع صورة العذراء تحمل المسيح .

ثم فى هيئة من يرفض أن يعطى المناقشة أكثر مما أخذت :

ـ كلمتنى عن اعتزامها التحول إلى الإسلام .. ثم أبلغتنى ـ فى زيارتها الأخيرة ـ بحرصها على ديانتها .

وبدا كأنها تستعد للنهوض :

ـ دعائى أن يرشدها الله إلى التصرف السليم !

ومضت فى ذهنه لحظات ، غلبه فيها التأثر لقول سيلفى إنها لا تتصور حياتها بدونه ، إذا ابتعد عنها ، فإن كل الصور تشحب ، تظل صورته وحدها واضحة الملامح . وقالت : لا أتصور ماذا كان سيحدث فى حياتى لو لم تظهر أنت فيها . وقالت : لولا حبى لك كنت سأقتل أنطوان ، أو أقتل نفسى !. وقالت : مادمت معى فلن أحزن على فترة ما قبل لقائنا . وقالت : إذا أسلمت فإنى سأدعو الله أن أموت قبلك كى تدفننى !

هل كانت تستمتع باللعبة ؟!

داخله حزن لم يكن شعر به من قبل ، غضب لم يعهده فى نفسه . قهره الإحساس بعدم القدرة على التصرف . أضاف إلى مشاعره أن الوقت قد فات ، لم يعد بوسعه أن يفعل شيئاً .

غلبه الذهول ، فلا يدرى شيئاً مما حوله . أحس أنه محاط بما لا يفهمه ، ولا يدرك كنهه .

هل كانت سيلفى بنتاً حقيقية ؟ هل تعرف إليها بالفعل ؟ هل عاش معها حياة حقيقية ؟!

ساوره الشك إن كان قد تعرف إليها ، وحدث بينهما ما حدث . تلاحق الكذب ، تراكم ، لم يعد يصدق إن كان ما رآه قد رآه بالفعل ؟

وهو يتهيأ للانصراف :

ـ أين هو الدير ؟