رفت ابتسامة تلقائية على شفتيه وهو يتأمل واجهة سينما على بابا : الرجال يفضلون الشقراوات ، لص بغداد ، إسماعيل يس فى الجيش .
خلف السينما وراءه ، واتجه ناحية اليسار . بادله رواد المقهى ـ على الناصية ـ نظرات معرفة . كان قد تكرر مرافقته لسيلفى فى زياراتها المتباعدة إلى الخالة إيفون . مضى ناحية باب البيت الخشبى المتآكل . وجد لجسده منفذا بين الأجولة المرصوصة على جانبى المدخل الضيق ، وروائح التراب والرطوبة والشواء والطبيخ والعطن .
تلمست قدماه السلمة الأولى ..
حدجته الخالة إيفون بنظرة متأملة ، تستشف ما بداخله :
ـ تسأل عن سيلفى ؟
حرك رأسه دلالة الموافقة .
ـ ألم تزر دومينيك وعياد ؟
ـ لا أعرف البيت .
وهى تنظر فى عينيه :
ـ سيلفى دخلت الدير ..
أضافت للدهشة المرتسمة على وجهه :
ـ أثّر فيها غيابك عنها ..
حدثته عن الأيام الأخيرة قبل أن تلجأ سيلفى إلى الدير ، تعتزل فيه .
قالت فى نبرة باردة :
ـ بدا القرار صعباً .. بدا القرار الوحيد . تفر مما أوقعت فيه نفسها من مشكلات .
وزمت شفتيها ، فبدت الكرمشة حول الفم :
ـ قد يغفر الله ذنوبنا ، لكن الناس يرفضون المغفرة .
وأدارت وجهها نحو النافذة :
ـ أزمعت سيلفى أن تلجأ إلى الدير .
حاول أن يقول شيئاً ، يسأل ، أو يوضح ، أو يعترض . شعر كأنه فقد القدرة على مجرد تحريك شفتيه . ظلتا ترتعشان ، دون أن تنفرجا . كأن شيئاً ما قد انتزع من داخله . تحركت مشاعره بما لا يقوى على التعبير عنه . لا يدرى حقيقة الشعور الذى تملكه .
أغمض عينيه ، كأنه لا يريد أن يرى ما حوله .
تنحنحت لتزيل احتباس صوتها :
ـ لم أفلح فى إثنائها عما اعتزمت فعله .
همست بالسؤال ، دون أن تلتفت إليه :
ـ ألم تر ـ ذات يوم ـ ما بداخل حقيبتها ؟
اخترقها بنظرة مستاءة :
ـ ما شأنى بحقيبتها ؟!
وأحاط رأسه بيديه كمن يعجز عن التصرف :
ـ لماذا ؟
وهى تضغط على الكلمات :
ـ إنها تحرص على وضع صورة العذراء تحمل المسيح .
ثم فى هيئة من يرفض أن يعطى المناقشة أكثر مما أخذت :
ـ كلمتنى عن اعتزامها التحول إلى الإسلام .. ثم أبلغتنى ـ فى زيارتها الأخيرة ـ بحرصها على ديانتها .
وبدا كأنها تستعد للنهوض :
ـ دعائى أن يرشدها الله إلى التصرف السليم !
ومضت فى ذهنه لحظات ، غلبه فيها التأثر لقول سيلفى إنها لا تتصور حياتها بدونه ، إذا ابتعد عنها ، فإن كل الصور تشحب ، تظل صورته وحدها واضحة الملامح . وقالت : لا أتصور ماذا كان سيحدث فى حياتى لو لم تظهر أنت فيها . وقالت : لولا حبى لك كنت سأقتل أنطوان ، أو أقتل نفسى !. وقالت : مادمت معى فلن أحزن على فترة ما قبل لقائنا . وقالت : إذا أسلمت فإنى سأدعو الله أن أموت قبلك كى تدفننى !
هل كانت تستمتع باللعبة ؟!
داخله حزن لم يكن شعر به من قبل ، غضب لم يعهده فى نفسه . قهره الإحساس بعدم القدرة على التصرف . أضاف إلى مشاعره أن الوقت قد فات ، لم يعد بوسعه أن يفعل شيئاً .
غلبه الذهول ، فلا يدرى شيئاً مما حوله . أحس أنه محاط بما لا يفهمه ، ولا يدرك كنهه .
هل كانت سيلفى بنتاً حقيقية ؟ هل تعرف إليها بالفعل ؟ هل عاش معها حياة حقيقية ؟!
ساوره الشك إن كان قد تعرف إليها ، وحدث بينهما ما حدث . تلاحق الكذب ، تراكم ، لم يعد يصدق إن كان ما رآه قد رآه بالفعل ؟
وهو يتهيأ للانصراف :
ـ أين هو الدير ؟