تدخل الكنيسة في طريقها إلي شارع نصوح. تصر السيدة كاترين أن يترددوا علي الأب يوحنا، في عودتهم إلي الفيلا. تعبر الحديقة الصغيرة ذات السور الحديدي، وأشجار البانسيانا، العالية، إلي صحن الكنيسة، والأبواب الخشبية الثلاثة، باب كبير، يتوسط بابين صغيرين، تصعد إليها ثلاث درجات رخامية.
الخادم مشغول في نفض الغبار عن الأيقونات والصلبان المعلقة علي الجدران..
تشعل شمعة، وترسم الصليب علي صدرها، وتؤدي ـ بتمتمات ـ بعض الصلوات والأدعية، تجثو علي سجادة الركوع، تستغرق ملامحها في الترتيل.
قال الأب لدومينيك:
ـ لك صوت جميل..
وواجهها بنظرة متسائلة:
ـ لماذا تتكاسلين عن الترنم في الكنيسة؟
أقعدتها أمها في البيت. أعدتها لبيت الزوجية. علمتها الجلوس علي ماكينة الخياطة، وتطريز الستائر، والغسيل، والكي، والطبخ، وصنع الحلوي. تشغل نهارها، ووقتاً من الليل، في العمل، تكنس، وتمسح، وتغسل، وترتب، وتنفض.
تواظب علي القداس اليومي. تحرص أن تجلس في الصفوف الأولي، تتابع القداس بخشوع، تكثر من الجلوس أمام كشك الاعتراف، ربما حضرت صلوات المساء.
قبل أن يتردد عياد علي البيت، وتطمئن إليه، كانت تحرّم علي نفسها مجرد النظر إلي أي شاب، ولو بجانب عينها، ولو باللمحة.
لم تكن تسامح نفسها إذا تحركت مشاعرها لرؤية شاب. تلتقيه في الطريق، أو سوق الخضر، قد يطل من نافذة، أو يقف داخل دكان. تظل الملامح في بالها. تعرف أنها أخطأت بما يستدعي الاعتراف. ترسم علامة الصليب، وتسرع خطواتها إلي الكنيسة. تزور الأب يوحنا في حجرته، أو تضغط علي جرس الاعتراف، لتروي.
تكون ـ في داخلها ـ إحساس بأنها تمتلك من الحصانة ضد الإثم ما يعينها علي مواجهة أية مغريات..
أقسي أيامها حين يداهمها صداع، أو وجع في جنبها. يداخلها معه حزن لا تدري مصدره. تطيل النظر إلي السماء، كمن تناجي الظلمة والقمر والنجوم والسحب. تضيق بالأسئلة والملاحظات. تلزم حجرتها، لا تفارقها إلا لدورة المياه. يدفع من يتصادف وجوده الباب الموارب حين يعلو صراخها. ألفوا سيطرة نوبات التشنج عليها. تعاودها علي فترات متباعدة. تتطوح ذراعاها وقدماها، وتتسع عيناها، وتتصلب، ويسيل الزبد الأبيض من جانبي فمها. تظل في تشنجها وهي بين ذراعي أنطوان أو جان، لا يتركها إلا بعد أن تهدأ.
لم تعد الأدوية تعيدها إلي حالتها وصفائها النفسي..
رفض أنطوان نصيحة الشيخ جميل غازي إمام جامع العزيز بالله، بأن يقام لها زار. لم يفهم المعني في البداية، ثم رفضه تماماً..
ـ هذه طقوس إسلامية!
ـ ما يهمنا أن تخرج الجان من جسدها..
ـ الجان؟!
ثم وهو ينفض رأسه:
ـ لا أؤمن بهذه الخرافات!.
اعتادت التردد علي الكنيسة، والصلاة فيها، صباح كل أحد. تظل إلي ما بعد انصراف الجميع. يستقبلها الأب بابتسامة مرحبة. يسألها عن الأسرة. يعرف أفرادها بالاسم.
عرفت من الأب سر القربان المقدس، وسر الزيت المقدس، وسر التعميد، وسر المناولة.. أسرار كثيرة حدثها عنها الرجل..
لا تكتفي بالأحد يوماً واحداً تزور فيه الكنيسة. ربما ترددت عليها مرة أو مرتين في اليوم الواحد. تشعر بالضيق، أو بالوحشة. ترتدي ما تصل إليه يدها، وتمضي إلي الكنيسة. تنتظر فراغ الأب مما يشغله. يهبها إنصاته، ثم يشير عليها بما ينبغي أن تفعله.
أودعت الأب كل أسرارها. لم تعد تخفي شيئاً. حتي العلاقة بين إخوتها بعد رحيل الأبوين، روتها له، وطلبت نصيحته. أظهرت تخوفها من سعي أنطوان لبيع الفيلا، قبل أن يهاجر إلي أمريكا. هي الآن ـ وحدها ـ تعيش في الفيلا. ساعدها عياد في منعه من تحقيق غرضه.
تلقت ماء التعميد علي يد الأب يوحنا.
عندما طلب الأب أن تسمي ـ عند التعميد ـ كريستينا، رفضت الأم، وأصرت علي تسمية دومينيك.
ألفت قداس الأحد: المجامر والتراتيل والصنوج والترانيم والبخور ذا الرائحة المميزة والدكك الخشبية والصلاة وتناول الخبز السماوي ولذعة النبيذ وطبق العطاء..
كان الأب يوحنا علي ثقة من أن الخالق يساعد العباد علي أمور حياتهم، وما يطرأ من مشكلات. وكان يرفض النذور والقرابين. يري أن أفعال المرء هي طريقه إلي الجنة، أو النار..
يعرف بيوت الأسر الكاثوليكية في الزيتون، ويعرف أحوالهم، والمشكلات التي يواجهونها. لا تقتصر معرفته علي ما يفض به المترددون علي الكنيسة عن أنفسهم وراء الستارة المسدلة، إنما هو يزور البيوت، ويكلم من يلتقي بهم في الطريق، ويلحظ الغائبين، ويدعو الجميع، فيزورونه في الكنيسة. يسأل، ويجيب، ويناقش، ويبذل النصيحة. إذا تأخر أحد المترددين علي الكنيسة عن قداس الأحد، قرع الأب باب بيته في يوم تال، يسأل عن السبب. يعيب علي الكاثوليك من أبناء الزيتون أنهم يهملون تعميد أبنائهم، ولا يعنون بالتردد علي الكنيسة ـ دومينيك استثناء جميل ـ وأداء طقوس الدين، أو يترددون علي الكنيسة لمجرد أداء الواجب. ربما ترك الكنيسة إلي بيت ينتظره فيه من يعوزه القربان المقدس، أو سماع الاعتراف، أو تلقي المسحة الأخيرة.
يقبل الهدايا للكنيسة، ويرفض الهدايا لنفسه:
ـ لا أحب أن أقف في موضع الحرج!
***
ظل الأب صامتاً، يحمل في يده المرشة المضمخة بالماء المقدس. يحرص أن يلزم الجميع الصمت أوقات القداس. حتي السعلة، أو العطسة، يتجه ناحيتها بنظرة غاضبة. يغيظه الكلام داخل الكنيسة، وعدم الإنصات إلي عظاته، أو إلي طقوس الصلاة.
الصولجان المذهب يحيط برأس الأب. يستعيد إكليل الشوك علي رأس تمثال المسيح في مدخل الكنيسة، وإن خلا من إيحاء وجود الدم.
استقر الحضور علي الدكك الخشبية. الشمامسة الصغار يرتلون الترانيم، ويهزون مجامر البخور. أصداء الترانيم تتردد في الأسقف العالية، المتداخلة، والجدران. كورال الكنيسة يشدو قداساً بموسيقي باخ وموزارت وبوتشيني.
خفض الحضور الرءوس، وشبكوا الأيدي علي الصدور.
هذا هو العالم الذي تحبه: المذبح، وتضوع البخور، صليل الأجراس الصغيرة، أردية الكهنة الفضفاضة يختلط فيها الأبيض بالبني، وتحيط بها ـ في المناسبات ـ الخيوط المذهبة، العصا العاجية ذات القبضة المذهبة، الشموع المضاءة، عزف الأورغن، وتراتيل الجوقة، وأصوات المصلين المتناغمة، والعيون المسبلة، وعلامة الصليب، والتمتمات، والألحان السماوية، وترتيل الآباء والشمامسة، والقربان المقدس، والزيت المقدس، والمعمودية،والمناولة المباركة، وصلاة السبحة، وصلوات الغروب، والتاسوعات، وطقوس التبخير، والرنو إلي المغفرة.
مالت إلي حجرة الأب في يسار الواجهة. اعتادت الرائحة العتيقة، لا تدري مصدرها، ولا تستطيع تحديدها.
الصليب يعلو الجدار، وتمثال العذراء تحمل المسيح، وعلي الأرفف تماثيل صغيرة لقديسين وشموع ومباخر. تقبل يده، وتنصت إلي دعواته ونصائحه: عندما نتقبل صوت الله فإن الله يجتذبنا نحو المسيح.. تناول القربان المقدس والصوم والإخلاص في التوبة يوصلنا إلي اكتشاف يسوع المسيح.. علينا أن نكون شاهدين للمسيح، نعطيه كل شيء.. حتي حياتنا.. علينا أن نتأسف عن قبائح تصرفاتنا وكلماتنا وندينها.. عندما تتقبل صوت الله فإن الله يجتذبنا نحو المسيح. الأب والابن والروح القدس، الخالق الأزلي الأبدي، المالئ كل مكان، العالم بالأسرار قبل كونها.. كيف نخشي التوبة وقد أنقذنا الله من سلطان الظلمة ونقلنا إلي ملكوت ابن محبته؟.. احتمي بالمسيح، وتشبثي بنعمته، وقوة دمه الغفورة.
قالت دومينيك للأب يوحنا:
ـ ارتكبت خطيئة..
قال الأب:
ـ افتحي باب قلبك لأن المسيح واقف علي الباب يطرق..
واحتضنها بنظرة مشفقة:
ـ أن نعترف بخطيئتا، فهذه بداية صحيحة..
واتجه إليها بنظرة متأملة:
ـ هل هي خطيئة جسدية؟
وهي تغالب شعوراً بالأسي:
ـ ربما..
ـ كيف؟
تعمدت أن يعلو صوتها لتقضي علي التردد في داخلها:
ـ تركت يدي للشاب الذي أعرفه.. ظل يضغط عليها، ثم تركها..
أردفت وهي تعاني الانفعال:
ـ شعرت أني موافقة.
ـ لعله كان خائفاً..
ثم في نبرة مهونة:
ـ هل هو خطيبك؟
ـ ينوي خطبتي.
وتهدج صوتها بالانفعال:
ـ قال إنه يحبني.
ـ ما فعله ليس حباً..
وظل علي نبرته المهونة:
ـ إحساسنا بالذنب والخطيئة يقرّبنا من هاوية العقاب إلي حياة النعمة..
همست لتخفي التوتر في صوتها:
ـ أرجو ألا تبوح لأمي بما رويته لك..
قال:
ـ هل رويت لي شيئاً؟
وهي تشير إلي الكشك الخشبي في مدخل الكنيسة:
ـ ما رويته لك الآن..
اعتادت التردد علي القسيس في الكنيسة. يجلس في الكشك الخشبي ذي الستارة من القماش السميك. ينصت إلي اعترافها، إلي ما ترويه عما تري أنه خطايا ينبغي أن تستغفر عنها. تثق أنه يعرف أنها تعرف صوته..
هز رأسه دلالة الفهم:
ـ أنت لم تقولي.. وأنا لم أستمع..
أشاح بهيئة من لا يعنيه الأمر:
ـ للكنيسة قوانين.. وهي تحظر علي الكاهن أن ينقل ما استمع إليه من أصدقائه..
وفاضت ملامحه بالإشفاق:
ـ الكنيسة ليست للخاطئين ولا للمؤمنين. إنها لكل رعاياها..