فصل (17)

18 0 00


تنقل ـ بألفة المكان ـ بين الصالة ـ لم يعد يقصر جلوسه فيها ـ والحجرات المحيطة بها . البوفيه الأسود المغلق ضخم بمساحة الجدار ، خلف الأنتريه ذى الكنبة والكرسيين والمنضدة الرخامية . علق فى أوسط الجدار جسد المسيح العارى على الصليب ، وإكليل الشوك على رأسه ، والطعنة فى جنبه الدامى ، إلى جواره صليب من العاج الأسود ، أهداه للمسيو ميكيل تاجر قبطى من المتعاملين مع البنك .

حجرة المائدة فى زاوية بين المدخل وجانب الحديقة . تلاصقها حجرة نوم أنطوان وجان . الجدران مكسوة بالورق الملون ، الترابيزة المربعة الصغيرة ، المغطاة بمفرش كروشيه أبيض ، تفصل ما بين السريرين ، بينهما ـ أعلى الجدار ـ لوحة ـ بدا أنها منقولة عن كارت بوستال ـ لامرأة عارية ، ممددة على شيزلنج . إلى جوار النافذة المطلة على الحديقة والشارع ، دولاب ملابس من ضلفتين ، ومكتبة صغيرة علقت على الجدار . فى المنتصف طاولة خشبية مستطيلة ، يتقابل فى طرفيها كرسيان ، خمن أنها لتناول الطعام والكتابة . فى يمين الصالة ، حجرة نوم دومينيك وسيلفى . تتوسط الجدار لوحة فيها خضرة منبسطة وأشجار وأبقار ترعى . قرأ على العلبة الصغيرة كالحق عبارة " المناولة الأولى " . دقق فى الصورة . لم يتأكد ما إذا كانت صورة الطفلة الصغيرة لدومينيك ، أو سيلفى . يشى بذلك الذبول الذى يشحب الصورة ..

تقابل الحجرة حجرة نوم الأبوين ، تركها الأب منذ أقعدها المرض فى السرير ، يتمدد على كنبة الصالة ، أو يجلس فى الردهة الخالية ، يغنى ، أو يقرأ الصحف ، أو يسلم عينيه لإغفاءة .

فى نهاية الصالة ، إلى اليسار ـ طرقة ضيقة ، مفروشة بسجادة طويلة ، تفضى إلى حجرة الصالون ، وإلى الحمام والمطبخ .

لم تعد الحجرة مغلقة ، كان تصوره أنهم يحتفظون بأثاثها المطعم بالذهب ، والكراسى ذات الكساء الحريرى الدمسقى ، المتداخل الألوان ، والنجفة المورانو ، والسجادة العجمية الفاخرة .

تفتح دومينيك النوافذ على الجانبين ، ومن الخلف ، بينما تظل نوافذ الواجهة مغلقة ، لا تفتح إلا حين تنشغل دومينيك بتنظيف الشيش والزجاج ، أو لتأذن للهواء ـ وقت الصباح ـ بالدخول . إذا حل الشتاء ، يغلق زجاج النوافذ ، ويظل الشيش مفتوحاً للنور .

الأشجار ـ خلف الحديقة ـ لم يقلمها الجناينى ، فتكاثفت ، ألقت ظلالاً دائمة على النوافذ الخلفية . اكتفى أنطوان بنفض رأسه لشكوى دومينيك من أن فروع الأشجار لامست النوافذ بما قد يجعل فتحها صعباً .

زقزقة العصافير فى الصباح الباكر ، وفى وقت الغروب ، تعلو بما يغيب بقية النهار . تتشابك ، تبدو كالصراخ المستغيث .

هبط الدرجات الخمس المفضية إلى الحديقة ، والباب الحديدى الخارجى . مال إلى اليسار . نزل البدروم ـ أسفل الفيلا ـ فى نهاية ممر الحديقة . اشتد المرض على الأم ، طلب أنطوان معاونته فى نقل قطع اُثاث من حجرة الأبوين إلى البدروم . لم يعد فى الحجرة سوى السرير الذى ترقد عليه الأم ، وبوفيه مغلق وضعت حاجياتها فيه ، وفوقه .

أضاء أنطوان لمبة تدلت من سقف البدروم ، تكومت قطع الأثاث على الأرضية البلاط ، ولصق الجدران ، وفى الأركان : كراسى محطمة ، مرتبة صغيرة سودها التراب ، علبة صفيح مغلقة ، أجزاء من أجهزة كهربائية ، ملفات قديمة ، بيانو منزوع الأسلاك ، صندوق بيرة زجاجاته ناقصة ، فازة فخارية مكسورة العنق ، سلال متداخلة ، لوحة مرور علاها الصدأ ، فاختفت أرقامها .

قالت :

ـ يهمك الأمر ؟

غالب ارتباكه :

ـ ألا يهمك ؟

وهى تشيح بيدها :

ـ إنها حادثة قديمة ..

ـ من ؟

ـ كنت صغيرة ..

ـ لابد أنك تذكرينه .. من هو ؟

ـ صديق لأخى أنطوان ..

وشردت بعينيها فيما يشبه التذكر :

ـ دخل حجرتى ـ ليلة ـ بعد عودتى إلى البيت . لم أستطع المقاومة ..

ـ وهل أخبرت أنطوان .. أو أمك أو..

قاطعته فى لهجة مستغربة :

ـ ماذا كانوا يفعلون ؟

قال فى سرعة ، ليقضى ـ ربما ـ على عدم التصديق فى داخله ، إن حياتها لا تعنيه من قبل أن تعرفه .

وقال :

ـ ما مضى من حياتك ملك لك تستطيعين إخفاءه .

أضاف بلهجة متواطئة :

ـ أمامنا حياة جديدة !

وومضت عيناه بالتذكر :

ـ من رفيق ؟

أعادت نطق الاسم :

ـ رفيق ؟

ـ ذكرت اسمه فى أثناء ..

وسكت .

قالت :

ـ مجرد اسم نطقته فى لحظة جنون !

نسب المشكلة إلى صديق لم يُسَمّه . همس بها لمحسن عبد العاطى ، يكبره بأعوام كثيرة ، وعمله فى المراجعة يتيح له معرفة ما قد يغيب عنه . خمن أنه سيفيده بما يمتلكه من خبرة .

رجح عبد العاطى أن يكون الله خلقها بدون دم . ذلك ما يحدث لبنات كثيرات . ربما فقدت الغشاء فى صباها دون أن تعى ، وربما أسباب كثيرة تختلف عن باعث السقوط .

شعر أنه أميل إلى تصديق المعنى .

ألفا الاندفاع ـ حين تخلو الفيلا ـ لممارسة الحب . يستعيدان ما تكرر حدوثه دون أن يشيرا إلى ما سبق . تشغلهما اللحظة بتوقعاتها وتوترها . يضيفان إلى لحظة الذروة ملامسات وقبلات ، يتأمل تباين بشرته السمراء وبشرتها البيضاء الوردية .

فاجأته بأوضاع لم يكن يعرفها ، ولا تصورها . دارى ذهوله فى تصنع بالفهم والخبرة . حرص ألا يظهر حتى ما يتصاعد فى نفسه من الشعور بالإرهاق ، أو القرف .

أشار إلى بطنها ، وهى تودعه ـ ليلة ـ على الباب الداخلى للفيلا :

ـ أخشى أن يفاجئنا ما لا نتوقعه .

تأمل نبرتها الهادئة :

ـ لماذا حبوب منع الحمل إذن ؟!

التقطت ابتسامة على شفتيه ..

قال لنظرتها المتسائلة :

ـ لما دعوتنى لزيارة أسرتك ، تصورت أنها عزومة مراكبية !

فسر المعنى :

ـ دعوة مجاملة .

وعادت الابتسامة إلى شفتيه :

ـ لكنك دعوتنى إلى حجرة نومك !

قالت فى نبرة مستاءة :

ـ كلام لا أحبه ..

ورفعت عينين تنطقان بالغضب :

ـ ماذا تريد أن تقول ؟