فصل (23)

18 0 00

قالت :

ـ سأظل على الكاثوليكية ..

اختلط صوتها الهامس بصراخ العصافير فى لحظات ما قبل الغروب .

رمقها بنظرة عدم تصديق :

ـ ماذا ؟

ظلت على صوتها الهامس .

ـ أجد نفسى فى ديانتى الأصلية ..

أدرك أنها صادقة فى ما قالته . كذبت كثيراً ، تراكمت أكاذيبها ، وتفرعت ، وتضخمت ، صارت بلا حد . لكنه أيقن من صدقها هذه المرة . ما قالته يصعب اختراعه . إسلامها من أجل زواجهما . لم تسأله عن الإسلام ، ولا عن مدى اتفاقه ، أو اختلافه ، مع الكاثوليكية . عكس التماع عينيها ، وتهدج صوتها ، صدق ما ترويه .

قال بالانفعال الذى يخفق فى كتمه :

ـ هل الديانات فيها أصيل وزائف ؟!

رفعت عينين منداتين بالدمع :

ـ أنت لم تعلمنى الإسلام ، من الصعب أن أكون بلا دين .

استعاد قول أمه ، وهى تسحب السجادة الصغيرة من تحتها :

ـ هل تصلى سيلفى ؟

أظهر الدهشة :

ـ لماذا تطلبين منها ما لا أفعله ؟!

حدجها بنظرة متأملة كأنه يعيد اكتشافها :

ـ هل تعرفين المسيحية ؟

زاد ارتباكها :

ـ ولدت فى بيت مسيحى ..

لاحظ أنها تتجنب نظراته ، كأنها لا تريد أن يفطن إلى ما تعانيه .

ظل ينظر إليها وهو صامت ، كأنه عاجز عن تصديق ما قالته . استطردت وهى تشرد فيما لم يتبينه :

ـ والكنيسة قريبة من البيت !

أنصتت إلى دروس الأب يوحنا فى قضايا اللاهوت : ما إذا كان الروح ينبثق من الأب وحده ، أو من الأب والابن معاً ؟ ، شروط المعمودية ، مادة العماد ، إتمام المعمودية : بالرش أم بالتغطيس ، حقيقة الاختيار السابق والمقدر ، الخمير والفطير ، الكهنوت ، النعمة الرسولية ، المطهر ، العصمة .. مفردات حفظتها ، دون أن تعرف من معناها إلا القليل .

وهو يعانى ارتباكاً :

ـ هل ترين الخير فى قرارك ؟

ران انكسار على صوتها :

ـ لم أعد أتوقع الخير حتى من نفسى .

انبثق فى صدره أمل :

ـ ما قاله موظف الشهر العقارى نصيحة ..

شوحت بيدها :

ـ لا تنتزع موافقتى فى هذه الظروف !

يتصور أن الندم والشعور بالذنب يعذبانها ، يتصور أنها طفلة عابثة ، لا تعى تصرفاتها ، ولا تقدر ما قد تنتهى إليه .

شعر أن الدنيا تظلم فى عينيه ، وأن الأرض تميد به ، والملامح تختلط ، وتتشابك ، وتتشوه ، وأنه يفقد السيطرة على نفسه ، وروحه آخذة فى الذوبان ، وقدماه تخذلانه .

فكر فى أن يفعل شيئاً ، أى شيء ، يخلصه من إحساس العجز الذى يتملكه ، اقتحمته رغبة فى أن يحطم شيئاً ، أى شيء ، كل شيء .

علا صوته بما لم تعهده منه ، ولا عهده هو فى نفسه . فطن إلى أنه يريد أن يخلص نفسه من مشاعر الغضب . اجتاحه إعصار من المشاعر الغاضبة .

كان جانب جسده آخر ما رأته وهو يميل من الشارع الصغير إلى شارع نصوح الهندى