تغيرت الجلسة .
جلس أنطوان على رأس المائدة ، وأخوته على الجانبين . أعاد أنطوان كلمات الصلاة التى كان يرددها أبوه قبل تناول الطعام " تباركت يا رب ، يا من تعولنا منذ حداثتنا ، وتهبنا خيراتك ، وتهيئ الغذاء للجميع ، لأن أعين الكل تترجاك ، فأنت تعطيهم طعامهم فى حينه ، تفتح يدك فتشبع كل حى رضى ، لك المجد والتسبيح والبركة والشكر على كل ما أعددت لنا من الطعام الموضوع على هذه المائدة المعدة لغذاء أجسادنا ، اجعله شفاء وقوة لحياتنا الجسدية ، امنح خلاصاً ونعمة وبركة وطهراً لكل المتناولين منه ، ارفع عقولنا إليك كل حين ، لطلب طعامنا الروحى غير البائد ، اعطنا أن نعمل للطعام الباقى للحياة الأبدية ، وهب لنا نصيبنا فى الاشتراك فى وليمتك السماوية ، امنحنا خبز البركة وكأس الخلاص ، واملأ قلوبنا من البهجة والفرح ، انعم علينا بحياة مطمئنة هادئة ، وسعادة فى النفس ، وصحة فى الجسد ، وقداسة فى الروح ، علمنا أن نطلب رضاك فى كل شيء ، حتى إذا أكلنا أو شربنا أو عملنا أى شيء ، نعمله لمجد اسمك القدوس ، لأن لك المجد إلى الأبد ، آمين ".
دعا الله أن يبارك أفراد الأسرة ، ويبارك البيت ، ويحفظ على الجميع نعمة الحياة ..
فعلوا ما كانوا يفعلونه عندما يصلى أبوهم . أحنوا رءوسهم ، وأخفضوا أعينهم ، ورسموا علامة الصليب ، وحاولوا التأمل .
***
قال جان :
ـ أنطوان أخذ كل شئ لنفسه .. لم يترك لنا شيئاً ..
ثم فى نبرة مفعمة بالأسى :
ـ مشكلة أنطوان تصوره أن كل ما فى البيت ملكه الشخصى ، هو الوريث الوحيد حتى من قبل أن يرحل أبى !
بدا أن أنطوان لم يعد يعطى حساباً لأى شيء ، لا علاقات أسرية ، ولا أخوة ، ولا حتى قوانين تمنعه من التصرفات الخاطئة ، ما يريده يأخذه ، لا يسأل ولا يناقش ، دائم التوجس ، يرمق ما حوله بعينين متلفتتين .
ورفع عينين متحيرتين :
ـ كيف نواجه الظروف فى الأيام المقبلة ؟
رسم الأب على صدره إشارة الصليب :
ـ تذكر قول إنجيل متى : " فلا تهتموا للغد ، لأن الغد يهتم بما لنفسه . يكفى اليوم شرّه " ..
***
امتلأت نفسه بالشكوك والمخاوف وعدم الاطمئنان . تحددت ملامح الصورة بما لم تتحدث عنه ، ولا كان يعرفه . الأم إيطالية من نابولى ، والأب نمساوى الأصل ، مصرى الجنسية ، وظل إلى المعاش موظفاً فى فرع بنك باركليز بالموسكى . لم تكن الأم قد ماتت ، وإن كانت تعانى مرض الموت ، ولا قتل المصريون الأب فى بور سعيد . غناؤه الأوبرالى أعلن تقدم صحته ، ورواياتها التالية تحدثت عن عمله فى فرع بنك باركليز بالموسكى حتى أحيل إلى المعاش .
لم يعد يدرك أين الصدق وأين الكذب فى كلامها .
قال :
ـ هل لازلت تذكرين آيات القرآن ؟
أدركت ما يعنيه :
ـ لا أذكر أى شيء إلا يتمى المفاجئ !
تناوشته الأفكار ، واختلطت . لم يعد يشغله شيء محدد ، لا شيء إطلاقاً . تحولت المواقف والرؤى والتصورات إلى ما يشبه التكوينات الشاحبة ، يصعب تبينها .
بدت تصرفاتها لغزاً يصعب حله ، اختلطت الحقيقة والخيال ، لا يدرى ـ وهو ينصت لها ـ إن كان ما ترويه قد حدث بالفعل ، أم أنها تخترع حكايات لا أصل لها .
لم يتصور أن الملامح البريئة تخفى كل هذه القدرة على الكذب . الكذب يتساقط من شفتيها ، يتناثر مع رذاذ لعابها ، بما يفرض الأسئلة ، أو أنه بصقات تقذف بها دون أن تعى تأثيراتها .
يأخذه الذهول من جرأتها على الاختلاق بالكذب ، وما صوره خيالها . الكذب حبل ، غاب طرف بدايته ، ولا تبدو له نهاية . كيف لم يفطن إلى كذبها ، وأنها تروى ما لم تعشه . هى تكذب ، وتكذب ، وتكذب . تروى الكذبة ، توشيها بالأضواء والظلال ، تحورها ، ربما تلغى حكايتها الجديدة حكاياتها السابقة . ترسم البراءة على ملامحها ، ترفع عيناً تطلب تصديقه .
لماذا كذبت عليه ؟
كتم السؤال فى نفسه .