حين مات الأب ، بدا كل شىء كأنه إعادة لما عاشوه عند رحيل الأم . كل الخطوات منذ لحظات الوفاة حتى العودة من مدافن مار جرجس . رحل الأب دون معاناة ، شهق بالألم ، وظلت عيناه الزرقاوان المفتوحتان ساكنتين .
مد أنطوان يده ، فأغمضهما .
عانت الأم حتى بدا موتها متوقعاً ، ربما تمنوا ـ كل واحد بينه وبين نفسه ـ أن تأتى النهاية التى طال توقعها . أجهدهم الإشفاق ، والترقب ، وأوقات الأزمة ، واستدعاء الطبيب ، والأدوية فى مواعيدها ، وعودة الأب يوحنا إلى الكنيسة دون أن يعطيها المسحة الأخيرة .
ما كاد ظل الحزن الثابت ـ بعد رحيل الأم ـ يتحرك ، يستعيدون أيامها كمادة للتذكر ، وليس للحزن ، ربما ابتسموا ، أو علت ضحكاتهم ، لتصرف أو لقول .. ما كاد الحزن يشحب ، حتى رحل الأب .
عاد الحزن ظلاً ثابتاً ، كما كان .
قالت سيلفى :
ـ بعد وفاة أمى ، توقعت أن يلحق بها أبى .
أردفت فى تأثر واضح :
ـ من المستحيل أن يعيش بدونها !
تملك الأب فى يوم رحيلها ما يشبه الشرود ، أو الذهول . غنى ، ونادى باسم كاترين ، ورفض طلب أنطوان أن يستبدل ملابسه ، وتابع خروج التابوت من البيت بعينين ساهمتين ، ولم يشارك فى الجنازة . ظل فى البيت بمفرده ، حتى عادوا من المقابر . لم يظهر الاهتمام ، ولا وجه أسئلة من أى نوع .
بدا التغير واضحاً فى تصرفات العجوز . ظل على ميله إلى الغناء . يعلو صوته بألحان أوبرالية ، لكنه أطال الصمت ، والانطواء على نفسه . يكتفى بساندوتشات تعدها له دومينيك أو سيلفى ، لا يجلس إلى المائدة . ينتقل بين الشرفة وحجرة النوم . غلب عليه الحزن وبطء الحركة .
لم تتصور سيلفى أن البيت يخلو ـ فى بضعة أشهر ـ من أمها وأبيها . بدا المستقبل محملاً بالتوقعات القاسية .
قالت سيلفى :
ـ يجب أن نؤجل خطبتنا مرة ثانية ..
رمقها بارتياب ، خمن أنها تخفى ما لا تبوح به .
قالت :
ـ قد يكون التأجيل حتى أجد عملاً ، ويتاح لنا العثور على شقة مناسبة .
اتجه إليها بالسؤال :
ـ كل بحثنا فى الزيتون .. لماذا لا نبحث بالقرب من بيتنا فى المواردى ؟
ثم وهو يغالب توتره :
ـ متى تزورين أسرتى ؟
ـ لن أحتاج إلى دعوة ..
ورفعت إصبعها فى وجهه :
ـ لأزور أسرتك وليس للبحث عن شقة . يصعب أن أبتعد عن الزيتون