فصل (14)

18 0 00


حين مات الأب ، بدا كل شىء كأنه إعادة لما عاشوه عند رحيل الأم . كل الخطوات منذ لحظات الوفاة حتى العودة من مدافن مار جرجس . رحل الأب دون معاناة ، شهق بالألم ، وظلت عيناه الزرقاوان المفتوحتان ساكنتين .

مد أنطوان يده ، فأغمضهما .

عانت الأم حتى بدا موتها متوقعاً ، ربما تمنوا ـ كل واحد بينه وبين نفسه ـ أن تأتى النهاية التى طال توقعها . أجهدهم الإشفاق ، والترقب ، وأوقات الأزمة ، واستدعاء الطبيب ، والأدوية فى مواعيدها ، وعودة الأب يوحنا إلى الكنيسة دون أن يعطيها المسحة الأخيرة .

ما كاد ظل الحزن الثابت ـ بعد رحيل الأم ـ يتحرك ، يستعيدون أيامها كمادة للتذكر ، وليس للحزن ، ربما ابتسموا ، أو علت ضحكاتهم ، لتصرف أو لقول .. ما كاد الحزن يشحب ، حتى رحل الأب .

عاد الحزن ظلاً ثابتاً ، كما كان .

قالت سيلفى :

ـ بعد وفاة أمى ، توقعت أن يلحق بها أبى .

أردفت فى تأثر واضح :

ـ من المستحيل أن يعيش بدونها !

تملك الأب فى يوم رحيلها ما يشبه الشرود ، أو الذهول . غنى ، ونادى باسم كاترين ، ورفض طلب أنطوان أن يستبدل ملابسه ، وتابع خروج التابوت من البيت بعينين ساهمتين ، ولم يشارك فى الجنازة . ظل فى البيت بمفرده ، حتى عادوا من المقابر . لم يظهر الاهتمام ، ولا وجه أسئلة من أى نوع .

بدا التغير واضحاً فى تصرفات العجوز . ظل على ميله إلى الغناء . يعلو صوته بألحان أوبرالية ، لكنه أطال الصمت ، والانطواء على نفسه . يكتفى بساندوتشات تعدها له دومينيك أو سيلفى ، لا يجلس إلى المائدة . ينتقل بين الشرفة وحجرة النوم . غلب عليه الحزن وبطء الحركة .


لم تتصور سيلفى أن البيت يخلو ـ فى بضعة أشهر ـ من أمها وأبيها . بدا المستقبل محملاً بالتوقعات القاسية .

قالت سيلفى :

ـ يجب أن نؤجل خطبتنا مرة ثانية ..

رمقها بارتياب ، خمن أنها تخفى ما لا تبوح به .

قالت :

ـ قد يكون التأجيل حتى أجد عملاً ، ويتاح لنا العثور على شقة مناسبة .

اتجه إليها بالسؤال :

ـ كل بحثنا فى الزيتون .. لماذا لا نبحث بالقرب من بيتنا فى المواردى ؟

ثم وهو يغالب توتره :

ـ متى تزورين أسرتى ؟

ـ لن أحتاج إلى دعوة ..

ورفعت إصبعها فى وجهه :

ـ لأزور أسرتك وليس للبحث عن شقة . يصعب أن أبتعد عن الزيتون