(3)

23 0 00

كان اختفاء الحاج (متولي) غير مبرر ولا مفهوم..

آخر مرة رأيناه فيها حين جاء ليتسلم آخر شحنة من الجثث التي حصلنا عليها؛ لينقدنا ثمنها وليخبرنا أنه لا يزال في حاجة للمزيد, مهشمًا أي قناعة كانت لدينا تجاه القصة التي ألفناها عمّن يشترون هذه الجثث.. لشهر كامل ونحن نحصل على الجثث ونبيعها بلا انقطاع محاولين تجاهل حقيقة أننا لا نبيع لإحدى الكليات التي تحوي مئات الطلبة, ولا أننا لسنا في بداية العام الدراسي حيث يزداد الطلب كما هو معتاد.. لشهر كامل ونحن نقنع أنفسنا أن هؤلاء السادة الذين يشترون الجثث يمارسون أنشطة علمية بحتة وأنهم يفضلون الخصوصية لأن الأبحاث العلمية عادة ما تكون سرية وإلا سرقت كالجثث..


لكن.. لكن..

لكن أي أبحاث هذه التي تحتاج لهذا الكم من جثث الموتى؟!

حتى الآن أخذوا منا ما يتعدى السبعين جثة, وفي حياتنا لم نقرأ أو نسمع عن أبحاث تحتاج لكل هذا العدد من الموتى.. لكنهم لا يتوقفون عن الطلب أو الدفع, لذا نستمر نحن إلا أن يعلنوا أنهم حصلوا على كفايتهم وإن كنا بدأنا نشك في أن هذا اليوم لن يأتي أبدًا..

كل هذا من الممكن احتماله طالما الحاج (متولي) هو همزة الوصل بيننا وبين هؤلاء الغامضين الذين يهوون جمع الجثث فيما يبدو.. لكن وباختفاء الحاج (متولي) المفاجيء تغير كل شيء..


الرجل كان بيننا منذ أقل من يوم بعباءته وسبحته ولقبه الذي لا يستحقه, يخبرنا أنه بحاجة إلى المزيد, ثم وفي صباح اليوم التالي فوجئنا بمن أتى من منزله يسأل عنه معلنًا أنه لم يعد إلى منزله قط..


في البداية تعتقد أن هناك شيئًا ما خطأ وتقنع نفسك أنه لم يختف تمامًا, بل هو منشغل بأمر ما وسيعود منه قريبًا.. سيعود منه بعد فترة.. يبدو أنه منشغل بالفعل ويبدو أنه أمر طارئ الذي يستلزم كل هذا الاختفاء..

هاتفه لا يرد.. سيارته لا أثر لها.. منزله لا يزال ينتظره, لكنه لا يعود..

مع الوقت نستوعب أن هذه هي الحقيقة.. الحاج (متولي) اختفى!


يمكننا أن نلجأ إلى الشرطة لو أردنا المشاكل التي لا مبرر لها ولا نهاية, لذا لا يوجد أمامنا إلا أن نبحث عنه بأنفسنا وهذا ما فعلناه, لنتفق على شيء واحد في النهاية..

الحاج (متولي) اختفى بلا أثر وبلا أمل في العثور عليه..

 

لم يكن حادثًا؛ فجسده لم يظهر في المستشفيات وجثته لم تظهر في المقابل ونحن واثقون من هذا.. لم يكن اختطافًا فلم يتصل أحد.. دعك من أنه لا يوجد من يوّد اختطاف كهل مزعج كالحاج (متولي).. لم يهرب.. لم يسافر.. لم يحترق أو يسقط عليه نيزك..

فقط.. اختفى!


كانت الجثث التي جمعناها له بدأت تتحلل في ذلك المخزن وهذا حقها بالمناسبة.. نحن لم نعدّها بناء على طلب الحاج, وهي لن تتفهم مطلبه بل ستمارس حقّها الكئيب حتى تتصاعد رائحتها للدرجة التي أجبرتنا على نسيان الحاج (متولي) والتفرغ لهذه المشكلة..

يجب أن ندفن هذه الجثث على الفور وإلا ستجذب رائحة الموت هذه كل الأعين علينا.. وبالنسبة لنا يشبه هذا أن ندفن أموالنا في الأرض لنحرم أنفسنا منها إلى الأبد!

لكن للأسف لا يوجد أمامنا حل آخر..

دفنا الجثث.. بحثنا مرة أخيرة.. تقبلنا الحقيقة المريرة في النهاية وهي أننا خسرنا الحاج (متولي) وعملاءه الغامضين الذين يشترون الجثث بأعلى سعر..


كان اختفاء الحاج (متولي) كارثة, لكننا نتعامل مع الموت كل يوم, ونعرف أنه لا كارثة بلا حل أو نهاية..

أخبرناك سابقًا أنه من أهم الوسطاء الذين نتعامل معه, لكنه ليس الوسيط الوحيد.. سيستمر العمل ولو كان أبطأ أو أسخف أو أقل ربحًا.. فقط سيكون علينا أن نعتاد العمل على فترات متقطعة وبمقابل أقل, بعدما كنا اعتدنا على العمل المتواصل والأرباح المتراكمة..

هذا سهل.. هذا ممكن..

هذا ما ظنناه في البداية!

 

* * *

 

بعد أسبوع واحد لا أكثر لم نبع خلاله سوى جثتين فحسب, لم نطق الاحتمال أكثر وقررنا البحث عن الحاج (متولي) في كل مكان.. إما أن نعثر عليه أو على جثته..

ضع نفسك مكاننا -أعرف أن هذا عسير, لكن حاول!- نحن اعتدنا على بيع ثلاثين جثة على الأقل شهريًا لنحصل على ثمن خمسين بأسعار كليات الطب, مما منحنا النشاط والحماس والمال الوفير, ثم يختفي (متولي) اللعين لنخسر مورد رزقنا دون ذنب جنيناه..

حاولنا العودة للسابق فلم نطق.. العمل أبطأ.. الطلب أقل.. الأرباح تنكمش.. حتى الجثث أصبحنا نخرجها فنجدها تبتسم ساخرة مما يحدث لنا!

الحل؟.. بسيط.. ليذهب الحاج (متولي) إلى الجحيم لو شاء, لكننا سنصل لهؤلاء المشترين الذين لا يتوقفون عن طلب الجثث ودفع ثمنها بأي ثمن..

كيف؟.. تلك هي المشكلة..

تلك هي المشكلة التي يبدو أنه لا حل لها, لولا أن أتى ذلك اليوم الذي جاء فيه حل المشكلة بنفسه إلينا..

وياليته ما فعل

كنا نهم بإعداد جثة تلك الفتاة, حين فوجئنا بذلك الرجل يتجه إلى مقرنا بخطوات هادئة بطيئة كأنه يمنحنا فرصة كافية لاستيعاب أن غريبًا عرف الطريق إلى مقرنا السري..

لكن وقبل أن نولي الأدبار فوجئنا به يعلن أنه من طرف الحاج (متولي) فأسرعنا إليه ذاهلين..

كان الرجل أشيب الرأس ذا قامة طويلة نحيفة, مما يعني أنه لو مات لن نحصل مقابل جسده على الكثير.. وكنا نحن أصغر سنًا وأكثر عددًا, لكننا شعرنا بالرهبة حين خرج صوته الخفيض يقول:

أنا هنا لأحصل على الجثث..


كأنه ملاك الموت وقد جاء ليطالب بما هو حقه.. بادرناه بعشرات الأسئلة عن الحاج (متولي) وأين هو ومن هو وكيف عرف الطريق إلى هنا وإن كان هو الذي يبتاع الجثث طيلة الوقت وأسئلة أخرى كثيرة لا تهم, لأنه لم يجب على أي منها..

فقط ردد بصوته الخفيض المهيب:

أنا هنا لأحصل على الجثث..

ثم أخرج من جيبه رزمة أوراق مالية ألقى بها إلينا, فانتفضنا ذاهلين..

هذا المبلغ يكفي لشرائنا نحن أحياء لو أراد!

 

هذا المبلغ يكفي لننبش له قبور العاصمة كلها.. يكفي لأن نقتل لنحصل له على المزيد من الجثث.. هذا المبلغ يعني أن الحاج (متولي) كان يسرقنا!!

الوغد اللعين كان يدفع أكثر مما اعتدنا عليه, لكن هذه الرزمة وحدها أكثر بكثير مما جمعناه طيلة الفترة الماضية.. سيكون من حسن حظ الكلب (متولي) أن نعثر على جثته بدلاً من أن يسقط في أيدينا حيًا..

أريدها بلا إعداد..

قالها الأشيب بصوته الأشبه بالفحيح فلم نعترض.. توقعنا هذا ومع هذا المبلغ لم يعد هناك مجال للحيرة أو التساؤلات.. سنحصل له على الجثث التي أرادها..

لكن.. كيف سنوصلها لك؟.. نعني.. أين؟؟


سألناه فألقى لنا بورقة عليها عنوان مخزن قديم نعرفه.. رسالة واضحة.. ضعوا الجثث هنا ونحن سنتصرف..

ثم إنه لم يترك لنا المجال للزيد من الأسئلة.. ترك المال والعنوان ورحل..

و الآن اسمح لنا أن نتركك قليلاً فأمامنا عمل لننجزه..