(7)

22 0 00

نحن لم نحب هذا الخيار ولم نرضَ به إلا لأننا لم نملك سواه..

أحدنا اقترحه ونحن ناقشناه طويلاً, ثم صوّتنا على أنه الخيار الوحيد الذي نملكه, ثم نفذناه صاغرين.. لهذا اتّجهنا إلى مخزن الموتى, ثم رقدنا وسطهم متظاهرين أننا منهم, منتظرين أن يأتي المشترون الغامضون..


المفترض وفقًا لصاحب الاقتراح أنهم سيأتون وسينقلون الجثث -ونحن وسطها- إلى حيث يعيدونهم إلى الحياة, وهناك سنَفهم كل شيء.. سنفهم من هم المشترون ولماذا يبتاعون كل هذه الجثث!. ومن أين يأتون بكل هذا المال وكيف يُعيدون الموتى للحياة ولماذا؟..

ما الذي سيحدث بعدها؟


لا يهم!.. المهم أننا سنعرف أخيرًا سرّ ما حدث لنا طيلة الفترة الماضية, ولو متنا بعدها فسنموت وعلى أوجهنا ابتسامة رضا..

لكن التظاهر بالموت شيء والرقود وسط الموتى شيء آخر!


نحن لا نشمئز من الموتى بالصورة التي قد تشمئز أنت بها, ولا نشعر بذات الرهبة التي كنا نشعر بها في بداية عملنا, لكن فكرة أن ترقد وسطهم تظل منفرة فوق قدرتك على التخيّل.. افترض أنك تاجر أسماك.. هل تتقبل فكرة أن تنزع ملابسك لترقد في حوض مليء بالأسماك؟


أرأيت؟.. الفارق هنا أنهم ليسوا أسماكًا بل جثث ذات وجوه تشبهنا وتشبهك, وبعضها بأعين مفتوحة ترمقنا في صمت يجثم على الصدور..

ثم إن الرائحة هنا لا تُطاق..

الجثث التي لا يتم إعدادها والتي ترقد في مخزن سيء التهوية, تعاقبنا برائحتها الكريهة والتي لا نتصوّر أن جثثنا ستصدر مثلها حين نموت.. أضف إلى هذا الظلام والصمت ولوعة الانتظار؛ لتجد أن عقارب الساعة قد أصابها الخبال, وأصبحت اللحظة تمرّ كل ربع ساعة!


نحن لم نفكّر حينها أنهم قد لا يأتون الليلة..

ما عشناه في الأيام الماضية, دفعنا لتنفيذ أول اقتراح قد يؤدي لنتيجة, دون أن يتوقف أحدنا ليسأل.. لكن, ما الذي سيحدث لو لم يأتِ المشترون الغامضون ليلتها؟؟


هل سنقضي الليل بطوله ننتظر على أمل قد لا يتحقق, لنغادر المكان عائدين إلى منازلنا إلى حيث سنستحم ثم ننتظر اللحظة المناسبة لنعود هنا, ولنرقد وسط الموتى ثانية؟؟

وماذا لو أتى المشترون حين نرحل؟.. سيضيع انتظارنا هباءً, لكن..

هل سنبقى هنا نتظاهر بالموت, لتمر علينا الأيام دون أن نمارس ولو حقًا واحدًا من حقوق الأحياء؟؟

هل نقسّم أنفسنا على ورديات؟.. المشكلة أنه كلما قلّ عددنا ضعفت قوتنا, ونحن لم نحافظ على كوننا (نحن) إلا باتفاقنا وبقائنا معًا مهما كانت الظروف, ثم حتى لو قررنا التضحية, فكيف سيبلغنا من سيكون هنا بما سيحدث لو أخذه المشترون الغامضون معهم؟؟

أعرف أنك تتذاكى الآن وتتساءل: ولماذا لم تراقبوا المكان من الخارج أيها الحمقى؟!..

لكننا لا نريد أن نعرف إلى أين تذهب الجثث, بل نريد أن نعرف ما الذي يحدث لها؟

لذا أرجوك ارحمنا من ذكائك .... و.... مهلاً..

إنهم هنا!

المشترون.. لقد وصلوا..


الخطوات تعالت من الخارج فسمعناها كلنا وتبادلنا النظرات الصامتة, قبل أن نغلق أعيننا مستعدين لحمل لقب (موتى), إلى أن يتم نقلنا من هنا.. فقط لم نقاوم أن نختلس النظر لحظات أطول؛ لنرى باب المخزن وهو يُفتح ليدخل ذلك الأشيب الذي يمنحنا المال مقابل جثثنا الطازجة, لكنه كان بمفرده..

بمفرده تمامًا..

 

لا عمّال ليساعدوه على حمل الجثث ولا عربات لنقلها ولا حتى أكلة لحوم بشر ليساعدوه على إنها هذه الوليمة الضخمة!

شعرنا بالدهشة حتى خشينا أن تطغي رائحة دهشتنا على رائحة الجثث, لكن أغلبنا شهق في ذهول حين تحدَّث الأشيب في هدوء ليقول:- لا داعٍ للسذاجة.. أنا أعرف أنكم هنا..

قالها على الرغم من أننا أخفينا أنفسنا جيدًا وسط الجثث, بل إنه واصل قائلاً:

- أنتم هنا لتعرفوا الحقيقة.. أليس كذلك؟

كأنه واحد منا!

ترددنا قليلاً ثم بدأنا نعلن عن أنفسنا بأن اعتدلنا مزيحين الموتى عن أجسادنا, لنواجه الأشيب الذي ابتسم قائلاً:

- سأجيب على سؤالكم لو أجبتم على سؤالي..

 

وصمت لحظة قبل أن يردف:

- لماذا لم تُنفقوا الأموال التي منحتها لكم؟

ألقى بسؤاله فشعرنا كلنا بسخافته التي لا تُنكر..

ما علاقة أمواله بما يحدث هنا؟.. وهل هناك علاقة بين عودة الموتى إلى الحياة وبين قدرتنا الإنفاقية؟..

ولماذا يُحاول أن يضيع الأشيب وقتنا بهذا السؤال؟!

إن الرد بسيط وهو..

- نحن لم ننفق من ماله شيئًا..

منحناه الرد فاتسعت ابتسامته..

نعم.. على الرغم من كل المبالغ التي حصلنا عليها من طريقه, نحن لم ننفق من أمواله قرشًا واحدًا, بل احتفظنا بها كما يحدث لكل من يحصلون على مبلغ كبير فجأة..


مرة واحدة لا تضع وقتك في الاختلاف معنا, فهذا ما ستفعله أنت لو حصلت على المال.. ولو كنت لا تصدقني فيمكنك المرور على البنوك لترى بنفسك, كل من يكنزون أموالهم في حسابات وشهادات وصناديق توفير, لا يمسّونها إلا ليضيفوا لها المزيد..

إنها اللعنة الشهيرة.. المال يصيبك بحمّى جمع المال, لهذا تجد المليونير يحلم بأن يغدو مليارديرًا, بينما الفقير يحلم بمكان جاف لينام فيه وحسب!


نحن أصابتنا ذات اللعنة, فاحتفظنا بمال الأشيب كله ولم نحاول الإنفاق منه ولا مرة واحدة, على الرغم من أنه أصبح مصدر دخلنا الوحيد, وكأننا فقدنا الحاجة لكل ما كنا ننفق عليه نقودنا سابقًا..

لكن.. كيف؟!

كيف فعلناها؟.. كيف احتفظنا بالمال طيلة هذه الفترة دون أن تمسّه أيدينا؟!

هنا أجابنا الأشيب كأنه يقرأ أفكارنا:

- لأنه لم يكن هناك مال..

قالها فانتفضنا هذه المرة, وأحطنا به نسدد له أعيننا الذاهلة المستنكرة, فأردف:

- سؤال آخر.. لماذا ظلت الجثث التي جمعتونها هنا دون أن تنقص ولو جثة واحدة؟

مرة أخرى ننتفض, لكننا هذه المرة أخذنا نتلفّت حولنا لنجد أنه صادق فيما يقول..

الجثث كلها هنا!


كل الجثث التي جمعناها منذ أن أتى إلينا الحاج (متولي) بعرضه وإلى آخر مرة, موجودة هنا دون أن تنقص!!.. بل إننا الآن نحدق ذاهلين في جثة الموشوم الأعمى التي أخفت عوامل التحلل الكثير من معالمها لكنها هي جثته!!

ما الذي يعنيه هذا؟؟

كيف ظلّت الجثث هنا؟!.. ولماذا يبتاع الأشيب جثث لا يحتاجها بأموال لا ننفقها إلا لو.. رباه لا!.. إلا لو.. لا لا!.. إلا لو.. مستحيل!..

لكن الأشيب هزّ رأسه مؤيدًا ليعلنها:


- إلا لو لم يكن هناك مشترون يبتاعون الجثث ليعيدوها إلى الحياة.. إلا لو كان هذا كله غير حقيقي..

- ألم تلاحظوا أن المخزن لم يدخله سواكم؟.. ألم تتذكروا بعد اليوم الذي ابتعتوه فيه؟.. ألم تنتبهوا أنكم كنتم الوحيدون الذين رأوا الموتى يعودون إلى الحياة؟

- كل هذا غير حقيقي وكل هذا لا وجود له إلا في عقولكم.. حتى أنا لا وجود لي..

قالها وصمت ليتركنا نحاول استيعاب هذا كله, فلم نستطِع..

كل هذا غير حقيقي!

ما الذي يحدث هنا بالضبط؟.. هل جننا؟!

كيف؟.. متى؟.. لماذا؟

- أنتم تعرفون أنكم لن تخرجوا من هنا.. أليس كذلك؟

هنا كانت شهقاتنا شهقات رعب لا ذهول!!

أمّا الأشيب فأشار إلى باب المخزن مردفًا:

- هذا المخزن لا يُفتح إلا من الخارج.. تمامًا كما أردتم..

فلم نصدقه, وأسرعنا إلى باب المخزن نحاول أن نفتحه دون جدوى..


حاولنا فتحه.. تهشيمه.. صرخنا على أمل أن يسمع صراخنا أي شخص قادر على نجدتنا.. حاولنا مجددًا.. وكل هذا بلا فائدة..

فقط في النهاية ابتسم الأشيب ليقول:

- أعتقد أنكم ستتذكرون كل شيء قبل النهاية..

 

ثم وببساطة تلاشى ليتركنا حبيسي هذا المخزن, لا يشاركنا وحدتنا فيه إلا أكوام الجثث التي لا تبالي بنا..

سنتذكر قبل النهاية؟

أحقًا سنفعل؟!

نحن مرّت علينا بضعة أيام ونحن هنا..

أغلبنا مات من العطش والجوع والرائحة, لينضم إلى الفريق الفائز.. فريق الجثث التي ترمقنا في انتظار..

نحن -من بقى منا حيًا- تذكّرنا الآن ما حدث.. تذكّرنا تلك الرائحة التي كانت تنبعث من الجثث لحظة خروجها من القبر والتي تساءلنا عن سرها طويلاً!..


تلك الرائحة التي تعرّضنا لها عشرات المرات.. مئات المرات.. آلاف المرات..

تلك الرائحة التي ذهبت بعقولنا..


لابد أنه وراء كل ما حدث أو أنه التفسير الذي سنردده حتى لحظة النهاية.. الرائحة أصابتنا بالجنون فابتعنا هذا المخزن وتخلّينا عن كل شيء عن المشترين الغامضين وعن الأشيب وعن الأموال الوفيرة وعن الجثث التي تعود إلى الحياة, حتى انتهى بنا الأمر هنا..

هنا حيث نحتضر ببطء وسط سلعتنا التي تاجرنا بها طويلاً.. إنهم الموتى وقد انتقموا منا, وهاهم يرمقوننا الآن مبتسمين بسخرية, ينتظرون أن نلحق بهم إلى حيث لن يختلف مصيرنا كثيرًا عن مصيرهم..


سنموت مهما قاومنا وستتصاعد رائحتنا مع رائحتهم إلى الدرجة التي ستجذب مَن يفتح هذا المخزن؛ ليجد مفاجأة عمره في انتظاره..

سيُحققون طويلاً وسيبنون نظريات لا حصر لها, ثم سيدفنونا في النهاية؛ ليأتي من ينبش قبورنا, ليبيع عظامنا لمن سيدفع الثمن..

نحن نعرف نهايتنا ونحن الآن ننتظرها في بطء..

ونحن نعرف أننا نستحقها تمامًا..