(5)

23 0 00

رجل ضخم موشوم بلا عينين, هل يمكن أن تكون مجرد مصادفة؟!

بالطبع هي مصادفة, فما الخيارات الأخرى التي نملكها؟؟..

هل تريد أن تخبرني أن الجثة عادت إلى الحياة؟!

كف عن السخف!


الموتى لا يعودون إلى الحياة, ونحن أكثر من نعرف هذا, فأنت لم تعش معهم كما عشنا نحن..

ربما -وفي بعض الأحيان لا أكثر- تحركت جثة بعد أن استخرجناها, لكن من علّمونا هذه المهنة أخبرونا أن هذا طبيعي.. إنها العضلات تضمر أو هواء يخرج أو هو الجسم يلتهم نفسه.. لهذا كانت بعض الجثث تتأوه أو تفتح أعينها أو تقبض على أيدينا, وهي أشياء لو رأيتها أنت لمُتَّ هلعًا..


مرة وحيدة استخرجنا جثة وعادت إلى الحياة.. إلى وعيها لو شئنا الدقة, وهذه المرة لا تُنسَى فلم يمر علينا سواها, ولا نتمنى أن يمر..

كانت جثة عجوز يبدو أن المرض امتص جسده فلم يترك لنا إلا عظامه, وكنا قد حضرنا جنازته لنعرف أنه مات مصابًا بالسرطان بعد صراع طويل لا نتمنى أن يخوضه أحد منا.. المهم أننا استخرجنا الجثة دون أن نعقد آمالاً عظيمة في الحصول على سعر لائق لها, لكنها الأمانة في العمل لا أكثر!.. أخرجنا العجوز وأرسلناه إلى حيث سيتم إعداده, ثم تركناه هناك لدقائق لا أكثر, وعدنا لنجده قد اختفى!


بحثنا عنه ذاهلين, فوجدناه يجوب الأرض حول مقرنا ذاهلاً لا يصدق ما يحدث من حوله, وقبل أن نفقد عقولنا لفرط ذعرنا, استنتج أحدنا تفسير ما حدث.. تشخيص وفاة خاطيء!


حدث بالفعل كما يقولون, ولو راجعت الأخبار والتاريخ لوجدت أن هذه الحادثة تكررت كثيرًا.. يدفنون شخصًا ما حيًا بعد أن ظنوا أنه مات, ليجدوا آثارا على قبره لاحقًا تشي بأنه كان يحاول الخروج.. مجرد آثار لا تعني إلا أنه مات بالفعل الآن وأن الطبيب الذي أعلن وفاته يستحق أن يكون مكانه, وهذا أكثر ما يستفزنا نحن..

أن نجد أطباء على هذه الدرجة من البلاهة بعد كل ما نفعله من أجلهم!


ليلتها هام العجوز قليلاً في الأرض, دون أن يجرؤ أحدنا على اعتراض طريقه, ثم هوى أخيرًا, لنتأكد بأنفسنا من وفاته هذه المرة.. وحين فعلنا, تحول العجوز إلى (مُنتَج) كباقي المنتجات التي نعدها للبيع ونكسب منها رزقنا..

هذه هي المرة الوحيدة التي نذكر فيها أن ميتًا عاد -مؤقتًا- إلى حياته.. فهل الموشوم الأعمى يكرر ما حدث؟؟.. مستحيل!

أولاً: مرّت عدة أيام على وفاته ودفنه..


ثانيًا: نحن قمنا بفحصه وتنظيفه قبل تخزينه ونحن لا نخطئ كالأطباء الحمقى..

ثالثًا: وهذا هو الأهم أننا نذكر جيدًا سبب وفاة هذا الموشوم..


لقد كان هناك ثقب رصاصة في مؤخرة رأسه!.. أي وباختصار شديد.. هذا الموشوم من المستحيل تمامًا أن يعود إلى الحياة.. مستحيل..

مستحيل.. مستحيل..

ما الحل الذي يتبقى إذن؟..


نعم.. إنه موشوم آخر -بالمصادفة- بلا أعين أيضًا -بالمصادفة, وضخم الجثة -بالمصادفة، مرّ أمامنا في ذلك اليوم ليعبث بعقولنا لا أكثر..


نعم.. القصة ستنتهي عند هذا الحد ولن نضع فيها المزيد من الوقت, وسنعود لعملنا المربح الذي يكفي ربحه لإخراس أسئلتنا و.. و..

ولكننا رأيناه بعد ذلك..


فقط حين رأيناه أخيرًا أدركنا أن خلافنا قد يتأجل قليلاً, لنفهم ما الذي يفعله أولاً..

فهناك وعلى أحد القبور, ربض الحاج (متولي) على ركبتيه, وقد أخذ يحفر القبر بأظافره, وقد حمل وجهه وعيناه نظرة جامدة مخيفة!

لم يبد عليه أنه شعر بنا أو اهتم.. لم يبد عليه الخوف أو البرد أو التعب أو حتى الهدوء.. لم يبد عليه أي شيء كأنه فقد مشاعره أو عاد من اختفائه بدونها.. فقط أخذ يحفر بأظافر دامية ذلك القبر كأنه يحفر قبره هو..


نادينا عليه فلم يُجِب بل واصل الحفر؛ لتتحول دهشتنا إلى خوف لم نشعر بمثله من قبل.. إن الإجابة تنبت في أعماقنا, لكننا نتظاهر بأنها ليست كذلك.. نتظاهر أننا لا نشعر بها, تمامًا كالحاج (متولي) الذي بدأ في إخراج الجثة من القبر دون أن يشعر بنا على الإطلاق..


ببساطة انتزعها من قبرها, ثم حملها على كتفه ووقف بها ليبدأ في رحلة الابتعاد عنّا, وهنا لم يعد بإمكاننا الصمت أو التجاهل..

انقضضنا عليه لننتزع الجثة من على كتفه, ولنحاول انتزاعه هو من حالته العجيبة هذه, لكنه ظل يحدق فينا بعينين لا تريان.. لم يقاومنا ولم يحاول حتى أن يعترض أو ينطق.. نظر إلى جثته التي أخذناها منه, ثم تركنا ليعود إلى القبور..

على سطح قبر آخر ربض, وبأصابع فقدت أظافرها بدأ يحفر من جديد!


يمكنك أن تتخيل نفسك مكاننا وأن تخبرنا بما ستفعله حينها.. يمكنك الآن وأنت آمن في دارك أن تفكر وتحلل وتستنتج وتجرّب, فلا خطر عليك ولا أنت منَّا أو عشت حياتنا.. يمكنك أن تتعقل.. أن تتريث وأن تراجع نفسك..


نحن لم نحظ بهذه الرفاهية.. نحن شعرنا بالذعر ليلتها, فانقضضنا مرة أخرى على الحاج (متولي)..

ودفنّاه حيًا!!