(4)

22 0 00

مرت عدة أشهر من السعادة والرخاء..

لم نعد نتعامل مع كليات الطب؛ فأسعارهم لم تعد تعنينا في شيء.. لم نعد نشغل بالنا بقضية نشر الصحة والتعليم, وقررنا التفرغ لجمع المال, ولقد كان مال عملائنا الجدد وفيرًا لا ينضب..


ثم إنهم كانوا يشترون أي جثة نعثر عليها وبأعلى سعر سواء كانت لرجل أو امرأة مهما كان عمرها أو حالة الجثة.. فقط يريدونها طازجة بلا إعداد..

لعدة أشهر شعرنا بمزيج من السعادة والراحة والثقة, وبدأت أمارات النعمة تظهر علينا بوضوح, حتى أننا أصبحنا لا نعمل بأنفسنا بل نستأجر عمالاً ينفذون العمل الشاق بدلاً عنا, كأننا كبار تجار الموتى!.. أيام تَمُر وعددنا يتزايد وآثارنا تظهر واضحة على أغلب قبور المدينة, وكل شيء يسير بنعومة وسلاسة, ليشعر بعضنا بذلك القلق المميز لكل الأيام الهانئة..


أنت تعرف هذا الشعور.. حين يسير كل شيء وفقًا لما تريد, وحين تحصل على ما تتمناه وتحقق ما تصبو إليه.. هذا لا يحدث على أرض الواقع إلا في حالة واحدة.. لو كانت كارثة موشكة على الحدوث قريبًا!.. هدوء ما قبل العاصفة كما يسمونه.. لا تحاول أن تتجاهل هذا الإحساس أبدًا لو شعرت به, فالحياة لا تمنح إلا لتأخذ ولا ترضى عنك إلا لتثور فجأة, وحين تفعل.. ترد لك الصاع بألف..

لقد انتشر هذا الإحساس بيننا فتبع الشعور بالقلق.. نحن نثق أن شيء ما موشك على الحدوث لكننا لا نعرف متى ولا أين؟

لكن بعد عدة أيام من الحذر عرفنا..

وياليتنا لم نفعل!


نحن لم نعد ننبش القبور بأنفسنا, لكننا نتابع كل المراحل التالية من تنظيف الجثة وتخزينها المؤقت, ثم شحنها إلى المخزن الذي طلب عملاؤنا منا أن نترك الجثث فيه.. بهذا نتابع سير العمل عن كثب, وبهذا نحتفظ وحدنا بسر موقع المخزن الذي نترك فيه الجثث في النهاية وهو سر يجب الحفاظ عليه وإلا طارت أعناق كثيرة.


وحين تمارس مهنتنا هذه لفترة تتحول كل الجثث بالنسبة لك إلى (جثث وحسب) وهي مزية نشكر الله عليها دومًا!

في البداية كنا نرى الجثة فنشعر أن هذا الصبي مات قبل أوانه.. أن هذه الفتاة كانت جميلة وأن جمالها سيذوى إلى الأبد..

أن هذا العجوز يحمل ابتسامة راضية على وجهه.. كنا نشعر بهذا ثم نجد أنفسنا مطالبين بالعمل على الجثة لإعدادها لنشعر بالذنب والاشمئزاز..


لكن مع الوقت تغلبت المهنة علينا وتحولت الجثث إلى (مُنتَج) نتعامل معه ونبيعه لنربح منه.. لم يعد هناك عجوز مطمئن بل هو جثة سعرها كذا.. لم تعد هنا فتاة جميلة, فالجميلة والقبيحة تتساويان في الموت وفي سعر البيع.. وهكذا..

فقط في بعض الأحيان تستوقفنا بعض الجثث لغرابتها, وكانت جثة هذا الرجل الموشوم غريبة حقًا..

أسميناه الموشوم لأن الوشوم كانت تغطي صدره وظهره وذراعيه, على نحو يندر أن ترى مثيلاً له في الموتى أو الأحياء..

كان ضخم الجثة وكانت عضلاته التي لم تتآكل بعد تعلن أنه لم يكن خصمًا سهلاً في حياته.. لكن الأمر الغريب والذي توقفنا عنده طويلاً هو أنه كان بلا عينين!

لا.. لا جروح تعني أنه فقدهما أو أن أحدهم نزع عينيه جراحيًا -ربما لسرقة القرنية- بل إن الأمر يبدو وكأنه ولد بلا عينين أصلاً.. تتساءل إذن.. لو كان هذا الرجل قد قضى حياته أعمى لا يبصر, فلماذا الوشوم ولماذا العضلات التي تشي بحياة عنيفة قاسية؟.. تساءل كما تشاء فلن تجيبك الجثة!


أمر يثير الحيرة حقًا ولقد توقفنا عنده لفترة قبل أن نقرر أن نتجاهله لنواصل عملنا.. مرة أخرى أذكرك أن جثة هذا الرجل بالنسبة لنا هي مجرد منتج نبيعه.. لا يهمنا شيء عن حياته ولا كيف قضاها ولا إلى أين ستخلد روحه..

كأي جثة تم تنظيفها.. شحنها.. وضعها في المخزن ليستقبلها عملاؤنا الكرام الذي يدفعون بسخاء..

كأي جثة غريبة علقت في أذهاننا لفترة ثم نسيناها تمامًا حتى.. حتى..

حتى رأيناها مرة أخرى!


نحن ننبش القبور في الليالي, لذا تجدنا طيلة النهار إما نائمين أو نأكل..

أغلبنا لم يتزوج بعد وهذه من آثار العمل في مهنتنا.. كثرة رؤية الجثث تقتل الرغبة, فما بالك بسرقتها؟..

المهم أن أغلبنا لم يتزوج بعد, وأن المطاعم هي سبيلنا الوحيد للحصول على أي شيء شهي..

لو رأيتنا في ساعات النهار, ستجدنا نجتمع في أحد المطاعم نأكل في صمت فلن تشعر بنا ولن تشك فينا أبدًا.. سادة مهذبون يتناولون طعامهم ويدفعون الحساب ليرحلوا في هدوء..


سادة مهذبون ومتأنقون حتى لو كان التأنق لإخفاء رائحة الجثث التي نقضي معها ليالينا!

أغلب وجباتنا نحصل عليها من ذات المطعم إلا لو تغلّب علينا الملل, حينها ننطلق في جولات طويلة لنبحث عن مكان جديد يروق لنا كلنا.. والمطعم الذي نفضله يقع في وسط العاصمة في منطقة شديدة الازدحام والصخب ولا بد أنك مررت عليه في أحد الأيام ورأيتنا لكنك لا تذكر..


نجلس دومًا عند تلك الطاولة الضخمة قرب واجهة المطعم الزجاجية, ونتناول كلنا ذات الصنف في هدوء كأننا نؤدي واجب العزاء.. إنها طاولتنا المفضلة لأنها تتيح لنا الفرصة لرؤية الأحياء وهم في حياتهم الطبيعية..


نرى ذلك الرجل ذا البذلة يصيح آمرًا في هاتفه المحمول, فنتخيل كيف سيكون في قبره حين نخرجه.. نرى تلك الفتاة تعرض للعالم مساحيق التجميل التي تخفي ملامحها, فنبتسم ونحن نحاول رسم هذه الملامح دون مساحيق في مخيلتنا..


نرى ذلك الرجل الضخم الموشوم عاري الجذع يجري عابرًا الطريق, فيتوقف الطعام في حلوقنا وننتفض ذاهلين!!

بعد دقيقة من الذهول الصامت, نتبادل نظرة (هل هو حقًا؟) ليجيب أحدنا علينا:

- لقد.. لقد كان بلا عينين..