نحن نتعامل مع وسطاء يسهلون عملية بيع الجثث، ولهذا مزية وعيب في آن واحد، فهو وإن كان يسهّل علينا الحصول على مشترين، إلا أنه وفي الوقت ذاته يزيد عددنا وبالتالي فرص الخطأ، فانكشاف أمرنا فالذهاب إلى سجون لن نخرج منها إلا جثثًا تستعد لأن تُسرَق تمهيدًا لأن تخدم البشرية على موائد التشريح..
لكن وبما أننا لم نضع هذا النظام، فلا مفر أمامنا إلا من اتباعه.. الوسطاء يحصلون على نسبة لا بأس بها، وأفضل وسيط نتعامل معه هو الحاج (متولي) الذي لم يحصل على لقب حاج إلا لعباءتِه التي يرتديها على كل ملابسه، وللسبحة التي يداعبها في أنامله وهو يتفحص كل جثة نحضرها نحن، قبل أن تتم عملية البيع.. الواقع أن أي شخص قادر على الحصول على لقب (حاج) لو ارتدى عباءة أو لو أطلق لحيته لفترة طويلة!
يتعامل الحاج متولي مع عمال مشارح كليات الطب -الذين يحصلون على نسبتهم أيضًا- وتعامله معهم يمتد لعشر سنوات حتى الآن، أي أن الثقة متبادلة ولا وجود للخلاف إلا نادرًا.. بالتالي تجد أننا نمنحه مكانة خاصة من بين كل الوسطاء الذين نتعامل معهم..
الرجل –وبمفرده- يسهّل لنا بيع أكثر من ألفي جثة مع مطلع كل عام دراسي!
يأتي لنا الحاج (متولي) إلى حيث يتم إعداد الجثث، ليتفحص غنائمنا وليقرر.. جثة هذا الرجل ستذهب إلى كلية طب (...).. وجثة هذا الشاب وهذه المرأة ستنطلق إلى كلية طب (...).. الهياكل العظمية مطلوبة من الجميع، ولو كنت من طلبة كلية الطب سستفهم ما أعنيه..
كمن ينتقي طعامه من بوفيه مفتوح ينتقي الحاج (متولي) جثثه، ثم وفي النهاية يجري بعض الاتصالات التي تدر دخلاً مرضيًا على الجميع، وفي بعض الأحيان يخبرنا بما يحتاج له لنجهزه له للمرة المقبلة.. أكثروا من جثث النساء.. لن نحتاج لأطفال هذه الأيام.. من فقدوا أطرافهم قبل الوفاة مرهقين في بيعهم فتجنبوهم.. وهكذا..
لم نكن نجادله في شيء طالما كل شيء معروف ومحسوب سلفًا.. ننبش القبور.. نخرج الجثث ونبيعها.. يوصلها الحاج (متولي) لمشارح كليات الطب ليدرس عليها الطلبة.. قد يرق قلب بعضهم ليدفنوا الجثث في النهاية لنخرجهم نحن من جديد!
منظومة في غاية الجمال والدقة وإن بدت روتينية للبعض أو مقززة للبعض الآخر..
فقط حين أتانا الحاج (متولي) بمطلبه الغريب منذ شهرين، اختلت هذه المنظومة تمامًا وبدأ الكابوس الذي لم نعرف أننا مقدمين عليه إلا منذ قليل..
ما الذي حدث؟.. لنبدأ بمطلب الحاج (متولي) الغريب لتفهم..
" أحتاج لجثث كثيرة.. أريدها كما هي دون إعداد.."
هكذا قال الحاج (متولي) وهكذا تبادلنا نحن نظرات الدهشة والاستغراب..
لا إعداد؟!
إعداد الجثة حتمي وإلا ستبدأ في التحلل والتعفن وكل المراحل التي لا نحب التحدث عنها رغم ثقتنا بأننا سنمر بها في يوم ما.. ثم إنه يطلب جثثًا كثيرة وهذا ليس (الموسم) كما يقولون..
هكذا سألناه فبدت عليه صرامة لم نعهدها فيه، وهو يجيب:
لا أسئلة.. هل ستوفرون لي ما أحتاجه.. أم؟؟
لكننا لم نكن أغبياء لنخسر وسيطًا كالحاج (متولي)، فأجبناه بالموافقة وإن قررنا أن نلح عليه بالسؤال لاحقًا لنفهم.. جثث كثيرة بدون إعداد؟.. بالطبع يجب أن نفهم..
كنا قد (أعددنا) بعض الجثث بالفعل، فعرضناها عليه ليرفضها رفضًا قاطعًا، وهو يردد:
لا إعداد.. أريدها كما هي.. طازجة..
وهذا يعني أن أمامنا عملاً لننجزه..
فقط لنأمل أن تكون نسبة الوفيات لهذا الشهر مرضية.. سامحنا.. لكن مصائب قوم عندنا فوائد!
هكذا انتشرنا بين القبور وهكذا قضينا أيامنا نذرف الدموع في الجنازات، وليالينا في نبش القبور وسرقة الموتى..
كنا نشعر بالتوتر هذه المرة، لأننا لم نكن نفهم..
يمكنك أن ترتكب جريمة تفهم دوافعها..
ستعرف أنها جريمة لا شك فيها، وربما شعرت بنوع من الذنب، لكنك ستفعلها لو كان المقابل مُجزيا ما فيه الكفاية.. لكن أن تفعلها دون أن تفهم لماذا؟
الحاج (متولي) أخبرنا أن المقابل هذه المرة سيكون أكثر مما اعتدنا عليه، لكنه لم يكن مجزيًا ما فيه الكفاية لنتجاهل حيرتنا، فعدنا نسأله ليرق قلبه قليلاً وليخبرنا السبب:
هذه المرة نحن لا نبيع لكليات الطب.. بل لأشخاص..
أشخاص يريدون جثثًا؟.. لماذا؟؟
يقولون إنهم يحتاجونها في أبحاث.. أخبروني أنهم سيدفعون أكثر لو كانت الجثث طازجة..
لكن.. من هم هؤلاء الأشخاص بالضبط؟
لا تشغلوا بالكم بهذا وأحضروا لي ما طلبته فحسب..
لكن..
لن أكررها.. يمكنني الحصول على ما أريد من مكان آخر وأنتم تعرفون هذا..
وهذا ما كنا نعرفه فصمتنا..
سنواصل دون أن نفهم أو لنحاول نحن اختراع القصة التي ترضينا.. يمكنك أن تخترع أي قصة لتخرس بها حيرتك، وكل ما عليك هو أن ترددها بما فيه الكفاية لتصدقها!
ولتكن قصتنا أن هناك أشخاصا (صالحين) يريدون بعض الجثث لتجربة أدوية جديدة عليها، مما سيعود بالخير على أشخاص آخرين (صالحين) ونحن سنمدهم بهذه الجثث لأنهم يدفعون جيدًا ولأننا (صالحين) مثلهم نوّد خدمة البشرية بما نفعله..
رددها أنت أيضًا بما فيه الكفاية وستجد أن تصديقها ليس عسيرًا كما كنت تظن..
هكذا عشنا في حالة سعادة صناعية لشهر كامل، قبل أن يقرر الحاج (متولي) أن يختفي فجأة ليترك لنا أكوامًا من الجثث التي لم يتم إعدادها، والتي توشك على التحلل!
نعم.. نحن نذكر أن هذا هو ما حدث أولاً..
اختفى الحاج (متولي) ثم بدأت باقي تفاصيل الكابوس تطفو إلى السطح.. الكابوس الذي كان موجودًا منذ البداية، لكننا لم نشعر به إلا متأخرًا..
متأخرًا جدًا..