(9)

23 0 00

ليلة عصيبة تلك التي قضيتها، بعد ما قاله لي "عدنان" عن

محاولة روح جدي الاتصال بي على هذا النحو..

ذلك الوعاء الأنيق المجاور للنافذة، والذي كنت أراه مع شروق كل شمس صورة مبدعة للجمال، قضيت ليلتي أتطلّع إليه في رعب، متصوّرا أن تخرج منه روح جدي في أي لحظة..

وعلى الرغم مني، رحت أُفكّر في هذا الاحتمال..

ماذا لو أن روح جدي تحاول الاتصال بي حتما؟!

ماذا لو أن لديه ما يريد إخباري به؟!

لقد قرأت وشاهدت أعمالا كثيرة، تتحدّث عن هذا..

عن روح هائمة، تريد إيصال رسالة إلى عالم الأحياء..

أو تحذير ما..

وفي قلق شديد، رحت أتساءل: ما الذي يمكن أن تحاول روح جدي الحبيب إبلاغي به بالضبط عبر هذا الاتصال؟!

أهو أمر يتعلّق بموته؟!

هل مات قتيلا مثلا؟!

أم إنه هناك ما يريدني بالفعل أن أكمله؟!

قضيت شطرا طويلا من الليل أفكّر في هذا، قبل أن يغلبني النوم في النهاية قبيل الفجر بساعة واحدة..

ثم هاجمني ذلك الكابوس مرة أخرى..

كابوس تصوّرت فيه أنني أفتح عيني؛ فأجد جدي واقفا عند طرف فراشي، يتطلّع إليّ بنظراته الصارمة، وهو يرتدي حلته التقليدية القديمة..

 

ثم فجأة، تحوّلت الحلة إلى معطف معامل أبيض..

وتحوّلت حجرة النوم إلى ذلك المعمل في القبو..

وإلى جوار جدي، وقف عدنان يتطلّع إليّ بدوره..

كانت دائرة المصابيح الضخمة كلها مضاءة، تصبّ على وجهي وجسدي، وكل أجهزة الكمبيوتر الحديثة في المعمل تعمل، وشاشاتها ترسم آلاف الرموز العجيبة..

ولأول مرة في كابوسي، سمعت صوت جدي الخشن، وهو يقول:

- خلاياه الأصلية بدأت تستيقظ.

أجابه "عدنان" في اهتمام:

- يبدو هذا، ولكنني كنت أتوقّع وقتا أطول.

هز جسدي رأسه في صرامة، وهو يقول:

- خلاياه البشرية ليست في قوة الخلايا الأصلية.

كنت أتطلّع إليهما بنظرة خاوية، وبلا أي انفعالات تقريبا، ورأيت جدي يميل نحوي ويسألني:

- هل تراني في وضوح؟!

أردت أن أجيب بشيء ما، ولكن -وكما يحدث في الكوابيس- انعقد لساني، ولم أستطِع قول شيء..

أي شيء..

وفي غضب، اعتدل جدي، وقال "عدنان" بنفس هدوئه المستفز:

- أخبرتك أنه سيحتاج إلى وقت أطول.

هز جدي رأسه نفيا في قوة، وقال في صرامة شديدة:

- كلا..

ثم عاد يميل نحوي في شدة، وتطلّع إلى عيني المفتوحتين مباشرة، وهو يقول في صرامة غاضبة:

- لقد حان الوقت.. استيقظ.

وانتفض جسدي في عنف..

واستيقظت..

كانت الشمس تغمر حجرتي عندما فتحت عيني، وشعاع منها ينعكس على ذلك الوعاء، ثم يتجه نحو وجهي مباشرة..

ولأول مرة ألاحظ هذا..

شعاع الشمس، أظهر بريقا خاصا في ذلك الوعاء..

بريق يعكس كل ألوان الطيف مجتمعة..

لست أدري كيف لم أنتبه إلى هذا في المرات السابقة، ولعل السبب هو رؤيتي الشخصية لذلك الوعاء في السابق، ورؤيتي له اليوم..

ربما!!

نهضت من فراشي، واقتربت في شيء من الحذر من ذلك الوعاء..

إنه وعاء جميل المظهر ولا شك، ولكنه مصنوع من مادة غير عادية، أو من قطع صغيرة من مواد مختلفة، لكل منها نوعه وبريقه..

والأضواء التي تبعث من انعكاس أشعة الشمس عليه، تمتزج مع بعضها البعض، لتبعث في نفسك شعورا عجيبا..

شعور هو مزيج من الرهبة والخوف مع استرخاء لا يناسب كليهما..

وبمنتهى الحذر والتوتر، مددت يدي ألمس ذلك الوعاء للمرة الأولى..

ثم تراجعت في ذعر..

الوعاء معدني تماما، كما يوحي شكله وبريقه، ولكن ملمسه ناعم إلى حد مدهش، أشبه بملمس مخملي رقيق..

ثم أنه بارد إلى درجة عجيبة، كما لو كان مصنوعا من الثلج، وليس من المعدن..

وعلى بُعد مترين منه، رحت أتأمله في توتر، وعقلي يطرح علي عشرات الأسئلة..

من أي شيء صنع هذا؟!

وكيف؟!

وهل يحوي بالفعل رماد جدي؟!

ولماذا هو هنا؟!

لماذا؟!

لماذا؟!

لماذا؟!

ملت نحو الوعاء في حذر، وأمسكت غطاءه البارد وجذبته في رفق؛ لألقي نظرة على رماد جدي..

ولم يرتفع الغطاء..

جذبته مرة ثانية..

وثالثة..

ورابعة..

وفي كل مرة كنت أجذبه بقوة أكبر..

وأكثر..

ثم بدت لي الحقيقة واضحة..

الغطاء مثبت في الوعاء على نحو ما، بحيث لا يمكن رفعه عنه أبدا، وكأنما حرص جدي، أو حرص "عدنان"، على ألا يفتحه أحد؛ خشية أن يتناثر رماد جدي؛ جرّاء خطأ ما أو هفوة ما..

دفعت أكبر قدر من الشجاعة إلى جسدي، وحاولت أن أطغي به على كل مشاعري، ومددت يدي ألتقط الوعاء، وأرفعه عن تلك المنضدة الصغيرة..

وهنا انتفض جسدي مرة أخرى..

وبمنتهى العنف..

الوعاء كان مثبتا أيضا بالمنضدة..

حقيقة كشفتها، عندما حاولت رفعه أولا في رفق ثم في قوة، تحوّلت بعدها إلى إصرار، بل وعنف، على الرغم من ملمسه البارد الذي صار يؤلم يدي..

وهنا تراجعت، ورحت أحدق فيه مرة أخرى..

أي وعاء هذا؟!

والسؤال الأهم: أهو بالفعل وعاء لحفظ الرماد، أم إنه شيء آخر؟!

استمر تحديقي فيه لحظات، انتقلت خلالها مشاعري كلها من الخوف إلى الضيق، ثم إلى غضب، جعلني أهتف في حدة:

" - عدنان".. أين أنت؟!

لم يجِب سؤالي الذي كررت النداء به عدة مرات؛ فاندفعت خارج الحجرة، وأنا أهتف به مرة أخيرة، قبل أن أهبط للبحث عن "عدنان" هذا..

كان المنزل هادئا ساكنا، تغمره أشعة الشمس، عبر كل نوافذه المفتوحة، وكان مرتبا نظيفا للغاية، وتلك السيارة عتيقة الطراز تقف أمامه، في نفس موضعها، ولكن لم يكن هناك أثر لـ"عدنان"..

أي أثر !!

قضيت ما يقرب من نصف الساعة في البحث عنه، وفحصت خلال هذا تلك المكتبة الصغيرة مرة أخرى، ولكنه كان قد اختفى تماما..

وعلى نفس المقعد الذي اعتدت تناول طعام إفطاري عنده، جلست أدير عقلي في كل ما حدث، منذ وصلت إلى هذا المكان..

كل شيء، وكل حدث، وكل موقف، كان يدعو لحيرة، لا حدود لها، كما لو أنني أحيا في فيلم سينمائي، من أفلام الرعب الأمريكية، وليس في عالم الواقع..

أغمضت عيني، وتساءلت: أمن الممكن أن يكون كل هذا حلما؟!

أو حتى كابوس، من نوع لم أمرّ به من قبل؟!

ولكن الأحلام وحتى الكوابيس لا تأتي بهذا الوضوح، وبكل هذه التفاصيل الدقيقة، والمشاعر الواضحة المميزة..

ولو أنه ليس حلما، فما هو؟!

لو لم أجد جوابا؛ فهذا لن يعني أن ما يحدث في منزل جدي الحبيب أمر عادي، بأي مقياس عملي أو علمي أو حتى منطقي..

ما يحدث هو أمر عجيب..

عجيب..

عجيب إلى أقصى حد..

ثم فجأة، قفزت تلك الفكرة إلى رأسي..

إنه "عدنان" ولا شك..

"عدنان" يريد إصابتي بالجنون أو بالرعب ودفعي لمغادرة المنزل، حتى يمكنه الاستيلاء عليه لنفسه..

فالمنزل، بكل ما يحويه من تحف نادرة، يساوي ثروة بلا شك..

ثروة كبيرة..

ثروة، ربما تقدّر بالملايين..

نعم.. هو "عدنان".. هذا هو التفسير الوحيد..

نهضت في حزم، عند هذه النقطة، أناديه مرة أخرى في قوة، على الرغم من ثقتي في أني لن أتلقّى جوابا..

ومع الصمت والسكون اللذين أجاباني، طرح عقلي عليّ سؤالا جديدا..

لو أن "عدنان" هو من يفعل هذا حقا؛ فكيف يفعله؟!

كيف يدس كل هذا في عقلي، ويقنع به مشاعري؟!

كيف؟!

" إنه الوعاء."...

هتفت بالكلمة في انفعال، عندما بدا لي أنه يستخدم ذلك الوعاء العجيب الذي يعكس أشعة الشمس على وجهي كل صباح؛ لكي يضعني في حالة أشبه بالتنويم المغنطيسي، يمكنني معها أن أحيا في عالم من الوهم، متصورا أنه كل الحقيقة..

مع هذا الاستنتاج اندفعت أصعد إلى أعلى، عائدا إلى حجرة النوم، وإلى ذلك الوعاء مباشرة..

وأمام الوعاء توقفت متوترا، وأنا أتطلّع إلى بريقه العجيب، ثم غمغمت في عصبية:

- سامحني يا جدي الحبيب، لو أن رمادك داخل هذا الوعاء بالفعل.

اعتمدت على المنضدة بقدمي اليمنى، واستنفرت كل قوتي، وجذبت الوعاء..

كان ملتصقا بالمنضدة في قوة، إلا أن أصابعي شعرت ببدء حركته، فوجدت نفسي، ودون أن أشعر، أصرخ بكل قوتي:

- ساعدني يا جدي.

ومع نهاية صرختي، انفلت الوعاء، وفقدت مع انفلاته توازني، وتراجع جسدي في عنف، وأنا أتشبّث بالوعاء، بكل ما أملك من قوة..

وعلى الرغم من قوة ارتطامي بالأرض، لم أشعر بأي ألم، وكأن مشاعري كلها قد توقّفت عند ضرورة الحفاظ على الوعاء..

وبأي ثمن..

ولكن ارتطامي بالأرض، أطار غطاء الوعاء الذي بدا لي شديد الإحكام، فصرخت بكل ارتياعي:

- لا.. رماد جدي..

وعبر الوعاء المفتوح، تناثر رماد جدي الحبيب في هواء الحجرة، وتساقط بعضه على وجهي، فسعلت في قوة، وأغلقت عيني في شدة..

وسمعت تلك الأصوات من حولي..

ومع خفقات الرعب في قلبي، فتحت عيني اللتين اتسعتا عن آخرهما، في رعب ذاهل..

فما رأيته أمامي كان مذهلا..

وبكل المقاييس..