(8)

23 0 00

بعد خمس ساعات من الحبس الانفرادي الإجباري، في معمل جدي، صرت أجزم بأنه كان عبقريا، سبق زمانه بقرن على الأقل..

ولكن قراءة أبحاثه أرعبتني بعض الشيء..

هذا لأن جدي كان يبحث في ذلك الحلم، الذي راود مئات العلماء والكيميائيين، عبر قرون وقرون..

حلم إكسير الشباب..

ذلك العقار الأسطوري، الذي يتناوله المرء، فيبقى شاباً لقرون وقرون، دون أن تبلى خلاياه، أو يصيبها التلف وتواجهه أعراض الشيخوخة..

ولست أدري لماذا ذكرتني أبحاثه برواية ماري شيلي الشهيرة "فرانكنشتاين"، والتي لم أتقبّلها كفكرة علمية أبداً في حداثتي وشبابي؛ إذ إنها تتحدث عن إحياء جثث الموتى، باستخدام الكهرباء، التي كانت طاقة رهيبة إبان كشفها، حتى إنها أثارت خيال العديدين، فلم يتصوروا حدوداً لها..

تماماً كما فعلت الطاقة النووية بخيالنا بعدها..

وكما ستفعل أية طاقة جديدة فيما بعد..

ثم إن رواية ماري شيلي كانت تحمل من الفلسفة أكثر مما تحمل من الخيال؛ إذ تتحدث، من خلال إطار خيالي، عن مسئولية الخالق عن المخلوق، أو المبدع عن إبداعه، أو حتى الأب عن أبنائه..

أما أمامي، عبر الملفات والوثائق، التي تركها جدي، فهو -نظرياً- واقع جديد، يثير ألف خيال وخيال..

لقد تعامل مع الأمر، على نحو علمي تماماً..

درس لسنوات طويلة تلك التغيرات، التي تصيب الخلية البشرية، مع تقدّم الإنسان في العمر، وتوصّل، منذ ما يقرب من نصف القرن، إلى أن سرّ الشيخوخة، هو تراكم سموم مؤكسدة، على الغلاف الخارجي للخلية، تمنعها من الاستفادة بالأكسجين، الذي يضخّه الدم، فتهلك، وتتداعى، ويصعب تجديدها بالمقدار نفسه..

ولقد سبق العلم الحديث بنصف قرن، في هذا المضمار؛ إذ لم يتم كشف علاقة الأكسدة بضعف الخلية، وظهور عوامل الشيخوخة على البشر وباقي الكائنات، إلا في السنوات الأخيرة فحسب.. (حقيقة علمية).

وطوال نصف القرن التالي، أجرى جدي الراحل آلاف التجارب، التي تستهدف منع أكسدة الخلية، أو إزالة الأكسدة عنها..

كان يتعامل مع الأمر، كما لو أنه صدأ تكوّن عبر السنين، ووسائل تجاوز تأثيره، تعتمد على منع تكوّنه، أو إزالته بمزيل للصدأ..

والعقار، الذي ظلّ يعمل عليه طويلاً، يمكن تشبيهه بمزيل الصدأ هذا..

وثائقه وأوراقه حوت الكثير من المعلومات، عن العقار الذي حاول ابتكاره..

والقليل جداً عن عينات البحث، التي استخدمها..

ففي كل أوراقه ووثائقه، وحتى أسطواناته الرقمية، لا توجد إشارة واحدة، إلى من أجرى عليهم تجاربه..

أو ما أجرى عليه تجاربه..

أكانت حيوانات تجارب معملية معتادة..

أم........

توقّف ذهني في خوف حقيقي، عندما بلغت كلمة "أم" هذه..

فماذا لو أنه كان يُجري تجاربه على البشر؟!

أمن الممكن أن تتجاوز معه الأمور، إلى هذا الحد؟!

هل يمكن أن يكون هذا تفسير العبارة، التي قالت: إن من يحضر إلى هذا المنزل لا يعود قط؟!

هذا لو أنها قيلت بحق!!

عادت الأمور ترتبك في ذهني مرة أخرى، وعاد ذلك الصداع العجيب يهاجم رأسي، ويجعلني راغباً بشدة في النوم، فأرحت رأسي على سطح ذلك المكتب الصغير، في ركن المعمل، وتطلّعت لحظات إلى الوعاء الأثري الأنيق، داخل ذلك الصندوق الزجاجي، والذي يحوي رماد جدي الحبيب، وغمغمت، وأنا أسبل جفني، في إرهاق عجيب:

- ماذا تريد مني يا جدي؟! بل ماذا تتوقع مني؟!

سمعت صوت رتاج باب المعمل يتحرّك، وصوت الباب يُفتح، إلا أنني لم أستطع حتى الالتفات إليه..

وعلى الرغم من أن عقلي كان قد فقد معظم إدراكه فعلياً، إلا أنني أكاد أقسم إنني قد سمعت شخصين يتحدثان، قبل أن أسقط في ظلام عميق..

عميق..

إلى أقصى حد..

وفي هذا الظلام، عاودني كابوس مشابه للأول..

كابوس رأيت فيه جدي، يرتدي معطف معمله الأبيض، ويحملني مع عدنان إلى تلك المنضدة الجراحية، في منتصف معمله..

وكان هناك دخان كثيف، يخرج من ذلك الوعاء، الذي يحوي رماده..

دخان كثيف للغاية..

وكان لذلك الدخان لون الدم..

وفي كابوسي، بدا جدي أكثر قسوة، مما يبدو عليه في صورته..

وعندما قيّدني بمعاونة عدنان على منضدة الجراحة، صرخت:

- لا يا جدي.. لا تفعل بي هذا..

وبكل قسوته، أجاب :

- هذا لصالحك.

قالها في كابوسي، دون أي شعور أو انفعال، حتى لقد بدا وكأنه شخص بلا حياة.. أو أنني رأيته في كابوسي هكذا؛ لأنني أعلم أنه فعلياً بلا حياة..

وعلى الرغم من عبارته، فقد واصلت صراخي، وأخذت أصرخ..

وأصرخ..

وأصرخ..

"استيقظ.. إنه كابوس..".

كان صوت عدنان هو الذي أخرجني من كابوسي، أو انتزعني منه انتزاعاً، وهو يهزّني في قوة، هاتفاً بعبارته السابقة، ففتحت عيني دفعة واحدة، وحدقت فيه برعب حقيقي، جعله يتراجع مغمغماً:

- لم أقصد أن أفزعك، ولكنك كنت تصرخ، و...

لم يحاول إتمام عبارته، باعتبار أن نصفها الثاني واضح، ولكنني انتبهت إلى أنني لست داخل معمل جدي، وإنما في حجرة نومه، فهتفت في عصبية:

- لماذا نقلتني إلى هنا؟!

تراجع في دهشة، مغمغماً في استنكار:

- نقلتك؟!

لم أعد أحتمل هذا الأسلوب، لذا فقد صحت به في حدة:

- اسمع يا عدنان.. لقد سئمت هذه الألاعيب.. لقد غلبني النوم، من شدة الإرهاق، في معمل جدي، و...

قاطعني بهتاف، يحمل كل الدهشة والاستنكار :

- معمل جدك؟! أي معمل؟!

كان هذا كفيلاً بأن تتفجر كل انفعالاتي، لأصرخ في ثورة:

- كفى.. هذا لم يعد يُحتمل.. لقد قضيت خمس ساعات كاملة، أقرأ وثائق جدي، وأطالع أسطواناته الرقمية، وما زلت أذكر كل ما جاء بها، من أبحاث ونتائج، حول إكسير الشباب، وأذكر، وبمنتهى الدقة، تفاصيل كل ركن في معمل جدي، من أجهزة الكمبيوتر، وحتى ذلك الوعاء، الذي يحوي رماده، مروراً بالمنضدة الجراحية، و...

تلك النظرة الذاهلة التي حدّق بها عدنان في وجهي، جعلتني أبتر عبارتي دفعة واحدة، وجعلت صوتي ينخفض في يأس، وأنا أقول في عصبية:

- لا تقل لي: إن كل هذا لم يحدث!

ظلّ صامتاً، يتطلع إليّ لحظات، قبل أن يهز رأسه، مغمغماً:

- لن أقول شيئاً.

نطقها في إشفاق، جعل قلبي يرتجف بين ضلوعي، في انتظار الخطوة التالية، فقلّب هو كفيه، مستطرداً:

- ولكنني سأتبعك إلى حيث تشاء.

قلت في عصبية:

- ما الذي يعنيه هذا؟!

قلّب كفيه مرة أخرى، وزفر في أسى، مجيباً:

- صحيح أن جدّك رجل عظيم، ولكنه لا يتعامل بتلك الأجهزة الحديثة، التي تتحدث عنها..

اندفعت أصيح فيه:

- لا تحاول أن...

قاطعني، محاولاً تهدئتي:

- قلت: إنني سأتبعك إلى حيث تشاء، بغضّ النظر عن أي شيء.

هتفت في حدة:

- وأنا سألتك عما يعنيه هذا.

هز رأسه في أسى، قائلاً:

- لست أدري ماذا أصابك منذ وصلت إلى هنا، ولكنك تتحدث عن معمل وأجهزة حديثة.. قُدْني إليها إذن.

استرجع عقلي في لحظة، كل الخطوات التي قام بها، فاندفعت أغادر الحجرة، وأنا أهتف في تحدّ:

- نعم.. سأقودك إليها.

سمعت وقع قدميه، وهو يسرع للحاق بي، فتابعت، وأنا أسبقه، في الهبوط في درجات السلم:

- كل هذا هناك، خلف تلك المكتبة الصغيرة، في الطابق الأرضي، حيث المدخل السري، إلى معمل جدي.

سمعته من خلفي يقول مشفقاً:

- معمل حديث، ومدخل سري؟!! هل تكثر من قراءة روايات المغامرات؟!

أغاظتني عبارته الأخيرة، فاندفعت نحو مكتب الطابق الأرضي، حيث تلك المكتبة الصغيرة، وقفزت يدي إلى نفس الكتاب، الذي استخدمه لفتح المدخل السري، وجذبته بالوسيلة نفسها، و...

ولم يحدث شيء..

تراجعت كل الدهشة، وأنا أحدّق في الكتاب، ثم في الفراغ، الذي انتزعته منه، ثم انقضضت بكل غضبى على المكتبة، أحاول زحزحتها من مكانها، فهتف هو منزعجاً:

- حذار أن تسقط الكتب.

صرخت بكل انفعالي:

- المدخل السري خلف هذه المكتبة.

قال بنفس اللهجة المشفقة:

- اهدأ، وسنتعاون معاً في دفعها.

تعاون معي بالفعل، ورحنا نزيح تلك المكتبة الصغيرة معاً..

كانت ثقيلة للغاية، شأن كل أثاث زمنها، إلا أنها راحت تنزاح رويداً رويداً، وكلما انزاح جزء منها، شعرت نفسي باليأس، مع الجدار المصمت، الذي يظهر خلفها..

وكمحاولة يائسة أخيرة، رحت أطرق الجدار بقبضتي في قوة؛ في محاولة لأن استشفّ أي فراغ خلفه..

ولم يكن هناك أي فراغ..

ولا أي مدخل سرّي بالتالي..

وانهرت على أقرب مقعد صادفني، وقد تحوّل كياني إلى كتلة من اليأس..

ولم يعد هناك مفر من أن أعترف، بأن عدنان على حق هذه المرة..

شيء ما أصابني، منذ وضعت قدميّ في هذا البيت..

شيء مزعج، غامض، عجيب..

ومخيف..

للغاية..

"ماذا الآن؟!"..

ألقى عدنان سؤاله في حذر، فغمغمت، دون أن أرفع عيني إليه:

- لست أدري.

صمت لحظات، ثم سألني في حذر:

- أما زلت تذكر كل شيء في وضوح، كما لو أنك قد عشته بالفعل؟!

أومأت برأسي إيجاباً في يأس، وأنا أكاد أبكي، من شدة الحيرة، فصمت لحظة أخرى، ثم قال في صوت خافت:

- العجيب أنك قد ذكرت أمراً لم أخبرك به بعدُ.

رفعت عيني إليه متسائلاً، فتابع في حذر:

- رماد جدّك.. لست أدري كيف علمت بشأنه.

سألته في دهشة، وجسدي يرتجف من المفاجأة:

- أهو موجود بالفعل؟!

أومأ برأسه إيجاباً، وأشار بيده، قائلاً:

- في ذلك الوعاء في حجرتك، على المائدة الصغيرة، إلى جوار النافذة..

هتفت في دهشة منزعجة:

- أيحوي رماد جدي؟!

أومأ برأسه إيجاباً في بطء، قبل أن يغمغم:

- وهذا يضعني أمام تفسير واحد.

سألته في توتر:

- وما هو؟!

أجابني في سرعة:

- إنها محاولة اتصال.

كررت في دهشة حذرة:

- محاولة اتصال؟!

أومأ برأسه إيجاباً مرة أخرى، بنفس البطء، قبل أن يقول في مهابة:

- نعم.. محاولة اتصال من جدك.

بدت الدهشة على ملامحي، فأضاف في رهبة:

- أو بمعنى أدق، من روح جدك.

وخيّل إلي أن الموقف كله ينقصه سطوع البرق، حتى يكتمل المشهد..

مشهد الرعب.