هذا المنزل يكاد يُصيبني بجنون مطبق..
لقد اختبرت تلك المصابيح بنفسي مرتين في المتجر الذي ابتعتها منه، وكانت في كل مرة قوية مبهرة..
حتى في وضح النهار..
أما هنا، فهي ليست كذلك..
على الإطلاق..
في كل مكان أستبدل فيه المصابيح يُفاجئني نفس الضوء شديد الخفوت!
حاولت..
وحاولت..
وحاولت..
وفي كل مرة وكل مكان أحصل على النتيجة نفسها..
ضوء مستفز شديد الخفوت أصابني بحالة عصبية، جعلتني أصرخ في "عدنان":
- ماذا أصاب مصابيح هذا المنزل المجنون؟!
أجابني في برود، وكأنه يتعمّد أن يستفزني:
- هكذا أراده جدك.
التفت إليه بنظرة نارية، فأشاح بوجهه؛ ربما ليخفي ابتسامة مقيتة وهو يضيف:
- وهكذا سيبقى.
صحت به في تحدٍّ:
- المنزل سيكون كما أريده أنا، حتى لو اضطررت إلى إحضار فني خاص من سوريا لاستبدال شبكة الكهرباء كلها.
كرّر تلك العبارة التي استفزتني دوما:
- يمكنك أن تحاول.
ودون أن أدري وجدت نفسي أقفز من مكاني، وقد أفقدني الغضب صوابي مع أعصابي الثائرة، وأنقض عليه في عنف، أدهشني أنا شخصيا..
ولكن الذي أدهشني أكثر هو ما حدث بعدها؛ فالمفترض أن "عدنان" هذا يعاني مرونة عظام شديدة، وعلى الرغم من هذا، فعندما ارتطمت به شعرت وكأنني أرتطم بجدار من صخر..
وكانت الصدمة قوية، أشعرتني بآلام في كل عظمة في جسدي، وجعلتني أرتدّ عنه وأسقط على مسافة مترين منه..
أمّا هو، فلم يهتزّ بمقدار أنملة.. فقط أدار عينيه إليّ، وقال في لهجة عجيبة تجمع بين الصرامة والسخرية والشماتة:
- لم يكُن هذا تصرّفا متحضّرا.
تراجعت زحفا وأنا أحدّق فيه في رعب تملكني لأول مرة..
ما هذا الرجل بالضبط؟!
بل ما هذا الشيء؟!
أيعاني من مرونة عظام أم صلابة جسد؟!
أهو بشر مثلنا أم...؟!
قبل حتى أن يكتمل الجواب في ذهني، وجدت نفسي أهتف بلا وعي:
- أخرج.
استدار بجسده كله نحوي، وتطلّع إليّ في تحدٍّ؛ فصرخت بكل انفعالي:
- أخرج.. لا أريدك في هذا المنزل لحظة واحدة.
ظلّ واقفا مكانه يرمقني بنظرة مخيفة، قبل أن يقول في بطء وصرامة:
- وصية جدك تمنعك من إخراجي.
صرخت بقوة أكبر:
- غادر المنزل أو أقتلك.
تألّقت تلك الضحكة الساخرة في عينيه، وإن لم تنتقل لمحة منها إلى ملامحه، وهو يقول بكل غلظة:
- يمكنك أن تحاول.
نطقها ثم استدار، واتجه نحو حجرته الصغيرة في هدوء، وأنا أصرخ من خلفه، بكل عصبيتي:
- أقسم أن أقتلك إن لم تفعل... أقسم.
شاهدته يفتح باب حجرته الصغيرة ويدخل الحجرة التي بدا أثاثها القديم واضحا، أشبه بصورة كئيبة موروثة، ثم أغلق الباب خلفه، وسمعت صوت رتاجه ينزلق، فقفزت من مكاني، وأنا أواصل صراخي:
- لا يمكنك أن تتحدّاني.. أنا مالك المنزل الحالي، ومن حقي أن...
كنت أندفع نحو حجرته الصغيرة وأنا أصرخ، وفتحت بابها بحركة حادة، مع الجزء الأول من آخر العبارة السابقة، و..
وانتفض جسدي كله في عنف..
وفي كياني -وليس في جسدي وحده- سرت قشعريرة باردة كالثلج..
أو أشد برودة منه..
ولست أدري كم اتسعت عيناي، ولكنني أتصوّرهما قد التهما وجهي كله من شدة اتساعهما، وأنا أحدق فيما أمامي..
ولست أدري حتى، هل تكفي كلمة الذهول أم إنها غير كافية لوصف ما أصابني!
فقد كانت الحجرة التي أمامي، والتي شاهدت أثاثها القديم بنفس عبر بابها المفتوح منذ ثوانٍ قليلة، تماما كما رأيتها في المرة الأولى..
خالية..
تماما..
فقط جدران وسقف وأرضية..
بلا نوافذ..
أو أثاث..
أو حتى "عدنان"..
وبلا وعي أيضا، وجدت نفسي أصرخ:
- مستحيل.. مستحيل!
وتراجعت في رعب بلا حدود..
وشعرت أنني قد ارتطمت بشيء ما..
واختلّ توازني..
وسقطت..
لم يبد لي أنني أسقط أرضا، بل في بئر عميقة..
عميقة..
عميقة..
وبلا قرار..
ومن بعيد، سمعت صوت جدي يناديني باسمي..
وكان الصوت يأتي من أعماق البئر..
و..
فجأة، استيقظت..
" هل غفوت قليلا؟!"..
ألقى عليَّ "عدنان" السؤال وهو منحن فوقي؛ فانتفض جسدي في عنف، وصرخت:
- أنت؟!
تراجع في شيء من الدهشة، وهو يقول:
- نعم.. هو أنا!!
حدقت في وجهه بنظرة تجمع بين الدهشة والخوف والاستنكار، استقبلها هو في هدوء مستفز، وهو يشير إلى شيء ما أمامي، متسائلا:
- هل أنهيت فطورك؟!
حدقت فيه مرة أخرى، مستنكرا عبارته، ثم انتبهت فجأة إلى أنني أجلس في الطابق السفلي من المنزل، وأمامي صينية طعام صغيرة عليها بقايا رغيف من الخبز وقشر بيضة مسلوقة وبقايا لبنة في طبق صغير..
وفي هدوء مستفز، رفع هو صينية الطعام وهو يقول:
- جدك كان يرى دوما أن الإفطار هو أهم وجبات اليوم.
هتفت به:
- من أين جئت؟!
أجاب، دون أن يلتفت إلي :
- أنا هنا طوال الوقت.
شعرت بقوة أنني قد مررت بهذا الموقف من قبل..
نفس الكلمات!!
نفس السؤال!
ونفس الجواب!!
شعرت بحيرة شديدة وأنا أنتزع نفسي عنوة من المقعد الذي أجلس عليه، وقلت في عصبية:
- سأستبدل كل هذه المصابيح.. إنني أبغض هذا الضوء الخافت.
لم أكد أنطقها حتى أيقنت من أني أكرّر شيئا فعلته من قبل؛ خاصة عندما أشاح هو بوجهه، وكرر عبارته الاستفزازية:
- يمكنك أن تحاول.
ضاعف هذا من عصبيتي وتوتري، فقلت وأنا أتلفّت حولي:
- أين حقيبة المصابيح؟!
توقّف ليلتفت إليَّ متسائلا:
- أي مصابيح؟!
قلت في حدة:
- تلك التي ابتعتها من البلدة؛ لاستبدال هذه المصابيح القديمة.
بدت دهشة حقيقية على وجهه، وهو يحدق في وجهي، قائلا:
- من البلدة؟!
نطقها في استنكار شديد، قبل أن يضيف في حذر وتفكير:
- ولكنني لست أذكر أننا قد توقفنا لشراء شيء، عندما مررنا بها!!
قلت في حدة أكثر:
- أنت تعلم أنني قد ذهبت وحدي بالسيارة، و..
قاطعني في دهشة أكبر، بدت لي طبيعية وحقيقية للغاية:
- وحدك؟! كيف؟!
سرى الغضب والانفعال في كياني، وأنا أجيب:
- أنت تعلم كيف.. لقد أعطيتني مفتاح السيارة، و..
قاطعني مرة أخرى:
- مهلا.. أنا لم أعطِك مفاتيح السيارة، ولا يمكنني أن أفعل؛ فأنا وحدي أعرف أسلوب قيادتها.
صحت فيه:
- ولكنني قدتها بالفعل إلى البلدة، وسكانها شهود على هذا.. لقد ابتعت المصابيح من متجر صغير، يمكنني أن أصف لك عنوانه بمنتهى الدقة.
أشار بيده، قائلا في قلق:
- أكان حلمك واضحا إلى هذا الحد؟!
صرخت، وقد استنفدت الأحداث أعصابي:
- لم يكُن حُلما.. لماذا تفعل هذا بي؟!
هزّ كتفيه العجوزين، وهو يقول:
- لست أحاول أن أفعل شيئا، وها هي مفاتيح السيارة.. أرني كيف ستقودها!!
اختطفت المفاتيح من يده اختطافا، واندفعت خارج المنزل إلى حيث تقف السيارة، ودفعت جسدي داخلها، و..
وتوقّفت..
ليست هذه هي السيارة نفسها التي قدتها إلى البلدة أمس..
إنها تبدو كنسخة طبق الأصل منها..
ولكنها ليست هي حتما..
التابلوه يختلف تماما..
بل كل شيء في آليات القيادة يختلف..
عصا السرعة متصلة بعجلة القيادة، وليست مزروعة بين المقعدين الأماميين..
والمفتاح في المنتصف، وليس إلى اليمين..
حتى المذياع يبدو أكبر حجما..
"أين السيارة التي أحضرتني بها من المطار؟!"..
هتفت بالسؤال في عصبية، فأجابني "عدنان" في بطء وكأنه يحاول تهدئة طفل صغير:
- أنت تجلس داخلها.
قلت في ذروة العصبية:
- كلا.. ليست هذه هي السيارة التي ذهبت بها إلى البلدة صباح أمس.
مال نحوي، وهو يقول في بطء:
- من المستحيل أن تكون قد ذهبت إلى البلدة صباح أمس، لا في تلك السيارة ولا في غيرها.
صحت به:
- ولماذا مستحيل؟!
مال عليَّ أكثر بأنفاسه الكريهة، وهو يُجيب:
- لأن طائرتك القادمة من القاهرة، هبطت في مطار بيروت ظهر أمس فحسب.
وكان جوابه صدمة قوية، جعلت رأسي يدور مرة أخرى..
وبمنتهى العنف،،،