(10)

23 0 00

مستحيل!! لا يمكن أن يكون ما آراه حقيقياً!!

إنني لم أعد في حجرة نوم جدي..

لم أعد ممسكاً بذلك الوعاء، ولا يحمل وجهي أثر رماده!!

لقد فتحت عيني، لأجد نفسي مقيداً إلى تلك المنضدة الجراحية، في معمل جدي، الذي أكد عدنان أنه لا وجود له..

وأمامي مباشرة يقف عدنان مبتسماً ابتسامة هادئة، خلف آخر شخص يمكن أن أراه في عالم الحقيقة..

جدي..

كان حياً تماماً، ويحمل تلك النظرة الصارمة، التي حفظتها من صورته الكبيرة في منزلنا، ولكنه لم يكن يرتدي حلته العتيقة النمطية..

كان يرتدي معطفاً أبيض اللون، يشبه معاطف الأطباء، ويرتكن بيده على جهاز عجيب، لم أشهد مثيلاً له في حياتي كلها من قبل..

حدقت فيهما ذاهلاً، قبل أن أغلق عيني في قوة، وأغمغم بكل توتري:

- ليس هذا حقيقيا.. إنه حلم.. كابوس..

شعرت بملمس يد جدي على وجهي، وهو يقول في صرامة خشنة:

- بل هو حقيقة.. أنت لست نائماً.

وأضاف عدنان في ارتياح:

- لقد استيقظت.

فتحت عيني أحدّق فيهما مرة أخرى في ذهول، قبل أن أقول بصوت مرتجف:

- ولكن جدي مات بالفعل.

اعتدل جدي، وهو يقول في صرامة:

- كانت هذه هي الوسيلة الأفضل لجذبك إلى هنا.

حدقت في جدي مرة أخرى، غير مصدق أنه على قيد الحياة، وقلت بنفس الصوت المرتجف:

- إذن فأنت لم تمت.

مطّ شفتيه، وهو يقول:

- ليس بعد.

هززت رأسي في قوة، وأنا أقول:

- ولكنك تبدو كصورتك تماماً، التي أحفظها منذ طفولتي.. لا أحد يبقى على الهيئة نفسها، لأكثر من ثلاثين عاماً.

أجاب، وهو يتحسس شاشة جهازه:

- إنها هيئتي، منذ جئت إلى هنا.

لم أفهم ما الذي تعنيه عبارته، ولا لماذا يقيدانني إلى المنضدة، التي تكاد دائرة الضوء فوقها تغشي بصري، فقلت بكل توتري:

- لست أفهم شيئاً.

أجابني عدنان هذه المرة، بنفس هدوئه المستفز:

- أنت في نصفك واحد منا، وكان من الضروري أن تصل انفعالاتك إلى ذروتها، حتى تبلغ خلاياك الحد الأقصى؛ لإيقاظ النصف الخاص بنا، على حساب نصفك البشري.

حدقت فيه ذاهلاً، وأنا أحاول التخلص عبثاً من قيودي، مكرراً:

- لست أفهم شيئاً.. لست أفهم شيئاً!!

تحسّس جدي وجهي مرة أخرى، قبل أن يقول:

- الواقع أننا جنس يحيا على الأرض، منذ ملايين السنين، ولكننا لم نفصح عن وجودنا قط، منذ بدأت الحضارة البشرية على وجه الأرض.. وهذا المنزل هو النقطة الرئيسية، التي يمكننا عندها الاتصال المباشر بعالم البشر.. وستتعلم الكثير عن جنسك الحقيقي، مع مرور الوقت.

رددت ذاهلاً:

- جنسي الحقيقي؟!

مطّ شفتيه، وهو يقول بصرامته الخشنة:

- أمك خالفت القواعد، وفرّت من هنا، وتزوّجت بشرياً، وكنت أنت نتاج هذا الزواج.. لم نكن نعلم ما إذا كنت تحمل في جيناتك خلايانا أم لا، وكان من الضروري أن نحضرك إلى هنا؛ حتى نكشف هذا.

استرخى جسدي، من فرط ذهولي، وعقلي يسترجع كل ما مرّ بي، منذ وصولي إلى منزل جدي، وما بدا لي كأمور يستحيل فهمها، وغمغمت مستسلماً:

- إذن فكل ما رأيته وواجهته هنا كان.....

قاطعني جدي، قائلاً:

- مجرد وهم.. وهْم صنعته واحدة من آلاتنا المتطورة، التي تجعلك تحيا فيه بكل حواسك، كما لو كان حقيقة ملموسة..

وأضاف عدنان، بابتسامة باهتة:

- الواقع أنك لم تعد في وعيك، منذ وضعت قدميك في السيارة، أمام مطار بيروت.. أجهزتنا أفقدتك وعيك مباشرة، ثم سيطرت على عقلك؛ لتحيا في عالم افتراضي، صنعناه لك.

قال جدي، وهو يشد جسده في صرامة:

- كان الهدف هو إنهاك عقلك بمتناقضات لا حصر لها، تجهد مشاعرك وخلاياك البشرية، حتى تتغلب عليها خلايا بني جنسك.

ثم مال نحوي بشدة، مضيفاً:

- ولقد نجح هذا تماماً.

أشار عدنان إلى الجهاز، وهو يقول:

- جهازنا أكد أن خلايا جنسنا قد انتصرت أخيراً، وأنك قد صرت بالفعل واحداً منا.

أضاف جدي بصرامته الخشنة:

- ولقد عملنا على ألا تستيقظ خلاياك البشرية، إلا بالقدر الذي لا يسمح لها بالسيطرة على كيانك مرة أخرى.

غمغمت في مرارة:

- أتعني أنني لم أعد بشرياً؟!

أجابني في حزم:

- في الجزء الأعظم منك.

ثم بدأ في حلّ قيودي مع عدنان، وهو يضيف:

- والواقع أن هذا سيضيف إليك قوة جديدة، تؤهلك لاحتلال موقعي، بعد أن حان وقت عودتي.

سألته في استسلام عجيب:

- عودتك إلى ماذا؟!

أجاب في صرامة:

- ستعرف كل هذا مع مرور الوقت.

كانا قد حلا قيودي كلها، فنهضت في بطء، أتطلع إليهما في استسلام كامل، في حين خلع جدي معطفه الأبيض، وناوله إلى عدنان، وهو يقول:

- هذا المنزل صار ملكاً لك، منذ هذه اللحظة، وعدنان سيبقى معك لرعايتك، وليشرح لك كل ما تريد معرفته، حتى موعد اللقاء.

سألته بنفس الاستسلام:

- أي لقاء؟!

أجاب، دون أن يلتفت إليّ:

- ستعلم في حينه.

ثم اتجه نحو ذلك الصندوق الزجاجي، الذي يحوي الوعاء، الذي أخبرني عدنان أنه يحوي رماده، عندما كنت أحيا في ذلك العالم الوهمي الافتراضي، وهو يضيف:

- وعليك أن تعلم، ومنذ هذه اللحظة، أنه لم يعد مسموحاً لك بمغادرة هذا المنزل بعد الآن.. أبداً.

كان هذا القول كفيلاً بإثارة كل غضبي وتوتري فيما مضى، ولكن العجيب أنني قد استقبلته في استسلام عجيب، وأنا أردد بلا انفعال:

- أبداً؟!

لمس الصندوق الزجاجي بيده، وهو يجيب في صرامة:

- أبداً.

وما أن لمس ذلك الصندوق، حتى بدا وكأن جسده كله يتلاشى، ثم يتحول إلى ما يشبه الدخان الأزرق الكثيف، الذي عبر زجاج الصندوق، مخالفاً كل قواعد الطبيعة، ثم غاص في قلب الوعاء الأنيق في منتصف الصندوق، وتلاشى بدوره..

وللحظات، جلست أحدّق في الصندوق الزجاجي بلا مشاعر، حتى قال عدنان في هدوء شديد:

- هذا يشبه ما تطلقون عليه، في العلم الأرضي اسم الانتقال الآني.

غمغمت متسائلاً:

- وإلى أين ينقله؟!

أجاب بنفس الهدوء:

- إلى عالمنا.

وقفت أمام نافذة منزل جدي، أراقب غروب الشمس، وأنا أستعيد في ذهني كل هذا، وأسترجع كل تفاصيل ذلك العالم الافتراضي، الذي عشت فيه..

كان المنزل يشبه تماماً ما رأيته فيه..

كل شيء فيه قديم عريق، ويمتلئ بالتحف الثمينة، فيما عدا عدة فروق أساسية..

الطابق العلوي كان يحوي حجرة نوم واحدة، ولا وجود للحجرتين الأخريين على الإطلاق..

وحجرة عدنان لم تعد خالية، ولا حتى مؤثثة بذلك الأثاث العريق..

لقد كانت تحوي حجرة مكتب، تضم العديد من الوثائق الأصلية، والكتب الثمينة..

والمعمل كان موجوداً بالفعل، خلف تلك المكتبة الصغيرة..

ولكن الأهم أن الإضاءة لم تكن خافتة على الإطلاق..

وفي داخلي تولّد شعور عجيب..

شعور بأنني لم أعد بشرياً..

ولم أكن كذلك على الإطلاق..

ومن خلفي، جاء عدنان يسألني، في احترام شديد:

- هل ترغب في أي شيء.. يا سيدي؟!

كانت أول مرة يخاطبني فيها بهذا اللقب، على الرغم من أنه بدا لي معتاداً، وأنا أقول:

- كلا.. يمكنك الانصراف.

تساءلت، والشمس تختفي في الأفق، عن ذلك اللقاء، الذي لم يخبرني أحدهم شيئاً عنه..

بمن سألتقي؟!

وكيف؟!

ولماذا؟!

ومع غياب الشمس، ابتعدت عن النافذة الكبيرة، ووقفت أمام مرآة عريقة في أحد جدران المنزل، لألقي نظرة على ملامحي الجديدة..

الملامح التي هي نسخة طبق الأصل من ملامح جدي..

الحبيب.