خرجت الأميرة " ياسمينا " بصحبة الملك إلى الحديقة الخلفية حيث ينتظرها هناك .. مُعلمُها الجديد ... " جاسر "
سارت بصحبة والدها فوق البساط الأحمر الطويل المؤدى إلى باب الحديقة الخلفية الخاصة وما أن أنتهى مداد البساط حتى بدأت الحديقة بالظهور شيئاً فشيئاً ومن ثم أرتفاع أصوات تغريد البلابل المُلَحن فوق شجيرات صغيرة حول بوابة الحديقة وعلى بُعد مسافة قريبة رأته يخلع خوذته المدببة من الأطراف لحماية الوجه وتتلاعب النسمات ببعض خصلات شعره الأسود وهو يشد قامته وينظر إليهما وهما يقتربان منه وعينيه السوداوتين العميقتين تتابع تقدمهما فى جمود وشموخ وأنتباه وسيفه الضخم مُعلق فى خاصرته ...
حاولت الأميرة " ياسمينا " السيطرة على ملامح الرهبه التى كادت أن تكسو وجهها بمجرد رؤيته بقامته الفارهة وعضلاته البارزه وعرض منكبيه التى تنم عن فارس حقيقى مضى عمره فى القتال حتى ظنت أنه يقاتل ايضاً فى أحلامه ولكنها لم تستطع منع الدهشة التى ظهرت على وجهها فلقد كانت تظنه أكبر عمراً مما هو عليه .. وبمجرد وقوفهما أمامه أندهشت مرة أخرى عندما لم ينحنى أمامها وأمام والدها الملك وأنما أكتفى بحركه بسيطه من عينيه وهو يقول بصوت رخيم:
- مرحباً سيدى الملك ..
ثم نظر إليها نظرة جعلتها تدفع أحدى قدميها للخلف وكأنه يدفعها بنظراته الحادة وأشار برأسه بخفه للأمام مرحباً بها :
- سمو الأميرة
زاد شعورها بالدهشة فهو لم يستخدم كلمة مولاى كما هو المعتاد عند مخاطبة الملك .. سيطرت على قدمها بصعوبه واعادتها بجوار أختها وهى ترفع رأسها باقصى ما لديها لتذكر نفسها بأنها مولاته وهو جندى فى جيوش مملكة يحكمها والدها بينما قال والدها بترحاب يشوبه التقدير:
- سمعت عنك أشياء مبهرة جدا وشعُرت بالحماس لرؤيتك ..
ثم اشار إلى ملابسه قائلا بابتسامة:
- زي الحروب والمعارك فى أوقات الفراغ ؟!!
أجاب بإيمائة من رأسه بهدوء وقال :
- أحنا فى تدريبات مستمره يا سيدى ..
ونظر إلى "ياسمينا" قائلا بصوت عميق أخافها:
- والتدريبات زى الحروب بالظبط عندى
أبتلعت ريقها بصعوبة وهى تشمخ بذبابة أنفها للأعلى لعلها تستجلب بعض شجاعتها وكبريائها المعهود فى صمت
بينما أتسعت أبتسامة الملك المنصور وهو يرفع حاجبيه ويقول مؤكدا:
- طبعا أنا متأكد من قدراتك
ثم اشار إلى "ياسمينا " وقال متابعاً:
- لكن أحب تدريب الأميرة " ياسمينا " يبقى مجرد تدريب مش أكتر
ألتفتت إليه "ياسمينا" وقالت على الفور بغرور:
- لا يا والدى .. أسمحلى .. أنا أقدر أقوم بفنون الرجال على أكمل وجه
ونظرت إلى "جاسر" وهى تقول بغطرسة واضحة :
- مهمة الجندى فى تدريبى مش هتبقى صعبه وأعتقد أنها مش هتستمر اكثر من يوم واحد وأكون قدرت أكتسب المهاره المطلوبه
رمقها "جاسر" بنظرة كالصقر بينما ألتفت إليها والدها بجسده كله وأمسك كتفيها قائلا:
- لا يا "ياسمينا" مش لازم تستهينى ابدا بفنون أسلحة القتال
وضغط كتفيها برفق وهو يقول منبهاً:
- والقائد " جاسر" هيعلمك كل شىء عنها بمهاراته العظيمه
ثم التفت إلى "جاسر" برأسه وقال وهو يشير بسبابته:
- الأميرة فى رعايتك يا "جاسر" أتمنى تتم المهمه على أكمل وجه
وأبتسم لهما وأنصرف بهدوء وهو لا يشعر بالعاصفه التى ستتبع أنصرافه الهادىء.
وضع "جاسر" خوذته أعلى فرع شجرة بجواره وهى تتابعه بعينيها ثم أستدار فى مواجهتها و عقد ذراعيه فوق صدره وهو يتفحصها ملياً
فى صمت وعينيه باردة كالثلج مما جعلها تتوتر أكثر وهى تنتظر أولى أرشاداته وأخيراً تشجعت وقالت بصوت أظهر توترها:
- مش هنبدء بقى ولا ايه
قال بملامح جامدة وهو يشير إلى ملابسها:
- أزياء الأميرات دى للأحتفال مش للتدريب على القتال
نظرت إلى ملابسها المبهرجة المرصعة عند الصدر والذيل بفصوص من الذهب والألماس ثم أعادت النظر إليه باستخفاف قائلة:
- عاوز سمو الأميرة بنت الملك المنصور تلبس أيه
تقدم منها خطوة كبيرة وهو ينظر إليها نظرات حادة مما جعلها تعود ثلاث خطوات للخلف وهى تنظر إليه بحذر وقلق
ثم توقف وقال بنبرة آمره:
- غيرى ملابسك وأرجعى بسرعه أنا مستنى هنا
قالت بتحدى :
- لاء
أخرج سيفه بهدوء وبطء وقوة فاصدر صريراً عالياً أنتفض له قلبها وهى تنظر إلى نظراته الجامدة وبدون سابق أنذار رفع سيفه فى الهواء وبحركة عكسية ثبت نصله فى الأرض تحت قدميها مباشرة مما جعلها تتراجع للخلف فاشار إلى السيف قائلا:
- أنزعيه
تقدمت من السيف بتحدى وأمسكت بمقبضة وحاولت نزعه من الأرض بكل قوتها ولكنها لم تفلح ..
خطفت نظرة إليه لتجده ينظر إليها ساخراً فأعادت المحاولة بكل طاقتها وهى تمسك مقبض السيف بكلتا قبضتيها وتجذب بقوة ..
شعرت أن السيف وكأنه هو والأرض قطعة واحده لم تستطع حتى تحريكه من مكانه وهى تحاول وتحاول بجهد كبير ..
توقفت وهى تستند إليه وتتنفس بقوة وصدرها يعلو ويهبط من كثرة الجهد المبذول فتقدم منها بنفس أبتسامته الساخرة
وأشار لها بأن تترك مقبض السيف ففعلت وهى تشعر بالخذلان والحنق والضعف أمامه ..
أمسك مقبض السيف بقبضته وأنتزعه بخفه أدهشتها ورفعه فى الهواء ووضعه إلى غمده مرة أخرى بنفس الصرير المزعج وأتجه إلى خوذته المعلقة وأخذها ثم ألتفت إليها مشيراً بسبابته:
- الدرس الأول ... أطاعة أوامر المُعلم
وتابع بسخرية:
- الدرس الثانى غداً فى الصباح
وتركها وأنصرف بهدوء وهو تعلو وجهه أبتسامة ساخرة وهى مغلفة بمشاعر الحنق والغضب تجاهه ...
*********************
دلفت "ياسمينا" إلى حجرتها الواسعة وهى مازالت تحتفظ بمشاعر الغضب بداخلها .. توجهت إليها مُربيتها "مودة" وقد عَلا وجهها أبتسامة صغيرة .. نظرت إليها "ياسمينا" بحنق وهى قادمة من الشرفة وقالت بعصبية شديدة تلعثمت معها عباراتها:
- كُنتى فى الشرفة .. أكيد شوفتى اللى حصل .. الجندى ده لازم يتعاقب
وجلست على طرف فراشها حانقة .. جلست "مودة" بجوارها وهى تربط على كفها قائلة:
- "ياسمينا" أتركى أمور الرجال .. أنتى أميرة وليكى شؤنك الخاصه ليه تتعبى نفسك كده
ظهرت الدموع فى عينيها ولم تحاول اخفاء ضعفها هذه المره فهى و"مودة"وحدهما وهى فى الحقيقة ليست مجرد مُربية ووصيفه مقربه
وأنما هى حاضنتها وأُماً ثانيةً لها ... وضعت "ياسمينا" راسها على كتف "مودة" وتركت الدموع تنساب من عينيها ببساطه
وهى تقول بصوت حزين:
- مقدرش أبقى مجرد أميرة ... "سيسيان" مش هيسيبنى فى حالى .. بيكرهنى وعاوز يتخلص مني بأى شكل
مسحت "مودة" دمعها وهى تقول مطمئنة:
- طول ما الملك موجود ميقدرش يقرب منك ..
شردت " ياسمينا " وقالت بحزن:
- ولو مش موجود؟ ولو مات زى أمى ..
وألتفتت إليها وقالت بتوتر شديد:
- ساعتها هبقى لوحدى وهبقى ضعيفه وممكن يحبسنى فى أى قلعه من القلاع البعيده لحد ما أموت وحيده
حوطت "مودة" كتفها بحنان وحاولت الذهاب بمجرى الحديث بعيداً وأن تضيف مساراً مرحاً للحديث
و تقول:
- يبقى تسمعى كلامى وتوافقى على الزواج .. الأمير " نـوار " طلبك للزواج أكثر من مره وأنتى كل مره ترفضى
نهضت " ياسمينا " واقفة ونظرت إلى " مودة " متعجبة وهى ترفع حاجبيها للأعلى معترضة:
- " نـوار" !!
ثم ضحكت فجأة بشدة ضحكات رقيقة وهى تقول:
- ده بيمثل دور الأسد على الناس كلها وأول ما يكون قدام " سيسيان" يتحول لهرة لطيفه مُستأنسه
أغمضت "مودة" عينيها بيأس ثم قالت:
- والحل ؟
شبكت "ياسمينا" أصابعها خلف ظهرها وهى تمشى مشيت الرجال وتقول بتركيز:
- هتدرب وهتعلم فنون الرجال والقتال وهكشف مؤامرات " سيسيان " ومُحاولاته فى السيطرة على حُكم المملكه
ومش هياس أبداً ومش هسكت مهما كنت ضعيفه ومش هسيب أى حد مهما كان يسلب مني حقى .
*****************************
وفى صباح اليوم التالى كانت فى أنتظاره فى الحديقة الخلفيه بملابس أقل فخامة عن التى كانت ترتديها فى اليوم السابق
وعندما رأته قادم من بعيد شدت قامتها ووقفت فى كبرياء وتصنعت التأمل فى بعض أوراق الاشجار التى كانت تقف بالقرب منها ...
لم يكن "جاسر" يرتدى حُلة الحرب كما كان فى أول لقاء بينهما ..
كان بملابس الفروسيه العاديه التى يرتديها دائما مما أظهر ملامح جسده القوى أكثر .. تقدم نحوها فى بساطه وألقى التحية
قائلا:
- صباح الإشراق سمو الأميرة
ألتفتت إليه وكأن الأمر لا يعنيها كثيراً وهى تقول بترفع:
- مرحباً
أقترب وأتكأ بمرفقه إلى جذع الشجرة التى كانت تقف بجوارها وقال وهو يتفحص ملابسها:
- واضح أن الدرس الأول ذهب أدراج الرياح
نظرت إلى ملابسها ثم نظرت إليه وقالت بعصبية:
- أنا بدلت نوعية ملابسى زى ما طلبت مني
قال وهو يومىء برأسه بتفهم:
- صحيح .. لكن برضه دى مش ملابس تدريب على فن من فنون الأسلحه
عقدت ذراعيها فوق صدرها ونظرت للاعلى بضيق شديد ثم أعادت عينيها إليه وقالت بنفاذ صبر:
- معنديش ملابس أقل من دى
شبك أصابعه خلف ظهرة ودار حولها يتأملها ويمط كلتا شفتيه ثم قال بعدم رضا:
- عموماً الدروس الثانى نظرى وهحاول أتقبلك وأنتى بالهيئه دى .. لكن الدرس القادم هيحتاج أننا نغير ساحة التدريب كلها
مش بس نوعية ملابسك
ألتفتت إليه وهى تضيق بين حاجبيها بعدم فهم وهى تقول:
- يعنى ايه نغير ساحة التدريب .. هنروح فين
فتح ذراعيه على مصراعيهما وهو يقول بابتسامة غامضه:
- مملكتى الخاصه .. !!